الصحافة على اختلاف مواعيدها وموضوعاتها، قريبة اللحمة بالأدب من حيث هو لغة وتعبير عن شعور فما من صحيفة مهذبة -أيًا كان موعدها ومطلبها- إلا وهي تزيد ذخيرة اللغة المكتوبة وتضيف إلى محصول النفس من المعاني والخواطر، وهي بهذه المثابة تخدم الأدب وتوسع نطاقه بين طبقات القراء.

ومتى كان هذا شأن الصحف عامة فأحرى بالصحف المقصورة على الأدب أو التي تفرد له بابًا خاصًا بين أبوابها أن تعد في مقدمة الوسائل الأدبية، وفي طليعة الفتوح التي تفسح حدود دولته وتضاعف عدد المعنيين به، وكثير بين صحف العصر الحاضر التي تصنع هذا الصنيع، وتفرغ بعض أبوابها لآثار الشعراء والكتاب والنقاد، وأصحاب القصص والطرف، وسائر ما يسمى أدبًا في عرف القراء، وهي تفعل ذلك لأن الأدب موضوع مشترك يقرأه الأديب وغير الأديب، ويسهل على من شاء أن يأخذ بنصيب منه على قدر استعداده ورغبته، فهو مطلب لا غنى عنه، الصحيفة تريد أن تستجمع أسباب الإقبال وتبز غيرها في التنويع والتشويق، ويرجع إلى هذا فقد اعتناء صحف السياسة اليومية في أقطار العالم بباب الأدب وما يتصل به، ويجري مجراه أصبح لبعضها كتاب أخصاء يمدونها بالنتف اليومية أو الفصول الأسبوعية أو بالقصص القصيرة والطويلة المتتابعة، فاستفادت هي وأفادت القراء والكتاب فائدة قل أن تتاح بغير هذه الوسيلة، فمن تحصيل الحاصل أن يقال إن الصحافة أداة كبيرة النفع للآداب والأدباء، خدمتها وخدمتهم بإذاعة اشعارهم وآثارهم، وتبليغ رسالتهم إلى طبقات وطوائف ما كانت لتسمع بها لولا الصحف والمجلات.

ولا محل للإسهاب في بيان فوائد الصحافة الأدبية للأدب؛ لأن الإسهاب في بيان ذلك كالإسهاب في القول إن رواج الآداب وتكثير عدد قرائها مفيد للآداب، ومثل هذا القول في غنى عن التبسيط والتدليل إلا أن سؤالاً طبيعيًا لا بد أن يرد على الخاطر في هذا المقام، وهو: هل أفادت الصحافة الأدب من جانب النوع والدرجة، كما أفادته من جانب الكم والكثرة؟ وبعبارة أوضح.. هل رفعت الصحافة مستوى الأدب كما زادت عدد قرائه وضاعفت مادة مسطوراته؟، والجواب في رأيي إلى النفي أقرب منه إلى الإيجاب؛ ذلك أن انتشار الكتابة بين جميع الطبقات يوكلها بالأعم الأشيع من الأذواق والأهواء، ويجعل الحكم الغالب عليها الجمهور القراء ومن يطلبون من كل قراءة ملهاة تشبه ملاهيهم المسفة وتعجب أفكارهم الساذجة، فلا يسع الصحيفة أن تقصر كتابتها على الفانين القول التي تحتاج في فهمها وتذوقها إلى ملكة نادرة وذهن واسع وطبع مثقف، ولا حيلة لها إلا أن تلقي بالها إلى الفئة الكبرى بين سواد قرائها مذ كان بقاؤها وذيوعها رهنا برضاهم عنها قبل رضا الهيئة الناخبة المختارة.


وتلك آفة للديمقراطية الحديثة، لا ندري كيف يطاق الصبر عليها، ولا كيف يعالجها الزمان فيما يعالج من الغير والأطوار يستبشر قوم برواج الآداب المسرحية، ولا أرى في رواجها إلا علامة من علامات الكسل عن القراءة وإمعان النظر، ويستبشر آخرون بكثرة الموجزات التي تلخص بدائع القرائح، ولا أرى في كثرتها إلا علامة أخرى على ذلك الكسل الوخيم، فكأن هبوط درجة الآداب تبع لازدياد قرائها حين يكون أولئك القراء من أشباه الأميين أو من طلاب اللغو وتزجية الفراغ، وكأن فكرة المساواة قد هبطت بالأعلى إلى مقام الأدنى، ولم ترتفع بهذا إلى مقام ذاك!، فأصبح الأغمار قانعين بأقدارهم، زاهدين في طلب المزايا الفكرية والفضائل النفسية، ووقر في أوهامهم أنهم أنداد أكبر كبير في الذكاء والعلم، فلا بغية لهم عنده إلا أن يسليهم وينقدوه، ولا حق له في أن يقف منهم موقف الأستاذ من المتعلم والمرشد من المسترشد.

1926*

*كاتب مصري «1889 - 1964»