وإذا كان القطاع غير الربحي وفق المفهوم التقليدي الذي كان سائداً في الأذهان حتى وقت قريب يرتبط بالعمل الخيري والمساعدات المادية للإيفاء بالاحتياجات الوقتية العاجلة، فإنه في عصر رؤية المملكة 2030 صار أعمق مفهوماً من حيث تنوع الفئات المستهدفة، والأهداف التي يراد تحقيقها، والنظرة العصرية المختلفة، حيث يعنى بتعزيز المفاهيم الحديثة وتمليك المستفيدين القدرة على تعزيز جودة حياتهم وتحقيق التنمية المستدامة.
وقبل أن يتم إطلاق هذه المؤسسات والمنظمات غير الربحية أولت القيادة الرشيدة اهتماماً كبيراً بإعادة تنظيم هذا القطاع، واتخذت عديداً من الخطوات التي كان لها أثر كبير في تطوير أدواته وتفعيل أساليب العمل، لأنها حررته من كثير من العوائق التي كانت تعترض طريقه، وصححت بعض السلبيات التي لازمته، وذلك عبر اتباع ممارسات عملية وأطر قانونية ورقابة مالية، ومن ثم بادرت إلى دعمه بمبالغ مالية مقدرة لترشيد هذا العمل وضمان تحقيق الفائدة القصوى منه وضمان تطور هذا القطاع الحيوي الذي أصبح شريكاً في التنمية وأحد أركانها الأساسية.
وحرصت القيادة في ذات السياق على أن تؤسس للقطاع غير الربحي جهة تُعنى بتنميته، وذلك في إطار التنمية الوطنية الشاملة التي تهدف رؤية السعودية 2030 إلى تحقيقها، لنشهد في عام 2019 -انطلاقًا من محور وطن طموح لرؤيتنا البوصلة- تأسيس المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي، الذي أنشئ ليكون المسؤول عن تنمية هذا القطاع، وتعميق أثره الاجتماعي والاقتصادي.
وبالنظر إلى تأسيس هذا المركز؛ فإننا نجده في المقابل يُعنى بمختلف الجوانب التنموية للقطاع، ليلحق بمنظومة التنمية الوطنية، فيحقق مؤشرات من شأنها المساهمة في تحقيق المستهدفات الوطنية للمملكة، التي يأتي من ضمنها زيادة مساهمة القطاع غير الربحي في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.87 % في عام 2023، وزيادة عدد المتطوعين في المملكة ليصل إلى 834.300 متطوع، ورفع نسبة العاملين في القطاع غير الربحي من إجمالي القوى العاملة لتكون 0.55 %، وبلوغ ما نسبته 173.4% في زيادة نسبة نمو عدد المنظمات غير الربحية في المملكة، و85.5 % في زيادة المنظمات غير الربحية المتخصصة.
وفي إطار استعراض البراهين بحسب ما ذكرته آنفاً من حرص دائم من القيادة بالقطاع غير الربحي، فقد شهد المجتمع السعودي خلال فترة لا تزيد على أسبوع إعلان إطلاق مؤسسة الملك سلمان غير الربحية، ولم تكد تمر سوى أيام قلائل حتى أعلن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان- حفظه الله- عن إطلاق مؤسسة الرياض غير الربحية، والمؤسستان وإن كانتا تتفقان في هدفهما الأسمى وهو تعزيز العمل العام، إلا أن كل منهما تختص بتحقيق أهداف محدّدة بحيث تتكاملان ولا تتقاطعان.
فمؤسسة الملك سلمان غير الربحية تعنى بتعزيز الإسهام الثقافي والفكري، حيث تركز على ترسيخ الأثر المستدام وتنمية المجتمع من خلال مشاريع مبتكرة وشاملة تستهدف البعد التنموي والثقافي، كما تعزز الاستدامة في مجال التوسع الحضري. لذلك فإنها تضم مراكز الملك سلمان الثقافية كافة، التي تشمل متحف الملك سلمان، ومكتبة الملك سلمان في مشروع بوابة الدرعية، ومتحف المجتمع السعودي في مشروع حديقة الملك سلمان.
أما مؤسسة الرياض غير الربحية فهي تسعى لترسيخ مفهوم الانتماء المجتمعي لدى جميع سكان العاصمة السعودية، وتعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتحسين جودة الحياة وبناء مجتمع أكثر شمولية واستدامة، ودعم المشروعات التي تخدم المجتمع، وتحقيق الأثر الإيجابي من خلال تقديم برامج متنوعة تُسهم في تحسين جودة الحياة، وتطوير برامج اجتماعية مبتكرة لتلبية احتياجات سكان مدينة الرياض بمختلف أطيافهم.
ومن أبرز ما يلفت في هذه المؤسسة الأهداف غير التقليدية التي تسعى إلى تحقيقها، إذ تعنى بتعزيز الصحة والسعادة ليعيش جميع سكان العاصمة حياة سعيدة وصحية وطويلة ومُرضية، والتمكين والشمولية، فالمؤسسة تهدف لتمكين الجميع من الوصول إلى إمكاناتهم الكاملة للعب دور أكبر في تطور المدينة، وترسيخ الانتماء لدى جميع مجتمعات الرياض لزيادة الشعور بالانتماء، وترسيخ مفهوم الاستدامة، لينعم المواطن والمقيم ببيئة شاملة ومستدامة وصديقة للبيئة.
هذا التناغم الفريد يثبت أن قيادتنا الرشيدة تنطلق من نظرة استراتيجية واضحة تهدف لتكامل الأدوار، وأن غاية تركيزها ينصب على المواطن أولاً وأخيراً، لأن أي تنمية اقتصادية أو نهضة مجتمعية لن يكون لها أثر يذكر إذا لم تكن موجهة بالأساس نحو إنسان مستقر يعيش حياة سوية ويتمتع بوضع اجتماعي مريح، ومهما كانت النتائج كبيرة فإنها ستظل بلا جدوى وسيكون تأثيرها محدوداً. لكن بإصلاح المجتمع فإننا نكون قد قطعنا أولى الخطوات نحو تحقيق النماء والازدهار.
ويعود الاهتمام السعودي المتزايد بالقطاع غير الربحي «المجتمع المدني» إلى الدور الكبير الذي باتت تلعبه في الوقت الحاضر لخدمة المجتمعات المعاصرة، والمصداقية التي تتمتع بها، سواء على الصعيدين المحلي أو الدولي، وقدرتها الفائقة على التحرك السريع للقيام بالوجبات الملقاة على عاتقها.
لذلك فإن من أبرز أولويات رؤية السعودية 2030 هي الاهتمام بهذا القطاع حيث أفردت له مساحات واسعة في محاورها الثلاثة، وطالبت مراراً بإيجاد منظمات متخصصة تسخر الطاقات الشبابية الهائلة التي يزخر بها مجتمعنا السعودي لتحقيق المصلحة العامة، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار أن ثلثي عدد المواطنين السعوديين هم من فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عاماً، وفق بيانات الإحصاء السكاني.
وبهذه الخطوات التاريخية، فإن بلادنا تكون قد بدأت تقطف فعلياً ثمار رؤية 2030 التي أدهشت العالم بتركيزها الواضح على ضرورة إحداث تغيير إيجابي في بنية المجتمع. ذلك أنها لم تكن أبداً مجرد برنامج تحديث اقتصادي يركز على الاستثمارات المادية، فقد كانت حكمة قيادتنا الرشيدة تنظر نحو أهداف أعمق أثراً، وأدركت بصواب رؤيتها أن الأولوية ينبغي أن تعطى لتنمية الإنسان أولاً وتعزيز مهاراته لأنه أساس النهضة وأول المستفيدين منها.