فيما يتم التركيز على إيران يتجاهل الغرب أن بنيامين نتنياهو هو الباحث عن «حرب شاملة»، إذ يجد الفرصة سانحة كي تضرب إسرائيل المنشآت النووية الإيرانية، وتجر الولايات المتحدة الغارقة في صراعاتها الانتخابية إلى حرب تبدأ ولا أحد يعرف متى تنتهي. في المقابل، يتجاهل الغرب الإشارات التي أرسلتها، خصوصاً عبر رئيسها الجديد مسعود بزشكيان في نيويورك إلى أنها على وشك الدخول في نهج سياسي مختلف. وبمعزل عما إذا كانت طهران جدية، أو في صدد مناورة سبق أن جربتها أكثر من مرة، فإن خطابها التصالحي وسط الاضطراب الحالي في الإقليم، وأطروحات المرشد علي خامنئي في شأن «التراجع التكتيكي»، كانا يستدعيان وضعها تحت الاختبار، وإنْ لم تستبق هذين الخطاب و«التراجع» بأي تغيير في مكانة «الحرس الثوري» وهيمنته على الدبلوماسية والتوجهات الاستراتيجية. ما أراده نتنياهو هو أن تمنع إسرائيل ولو بداية «تطبيع» مع إيران- بزشكيان، مثلما أن «طوفان الأقصى» شكل خطوة إيرانية لمنع «التطبيع» العربي- الإسرائيلي.
الواقع أن الحركة الانتقالية للنظام الإيراني، ودائماً مع افتراض أنها ليست للمناورة، جاءت متأخرة. صحيح أنها لم تضع نفسها في منافسة أو سباق مع الحرب على غزة، إلا أن إسرائيل سعت إلى جعلها كذلك معتبرة أن حربها على «حماس» والفصائل الأخرى لا سيما «حركة الجهاد» هي «حرب ضد إيران»، حتى ولو كانت تلك الفصائل تمثل شرائح من الشعب الفلسطيني مؤيدة للمقاومة المسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي. ومع مضي أحد عشر شهراً على الحرب في غزة وإضعاف «حماس» وتدمير مقومات الحياة في القطاع، لمست إسرائيل وحلفاؤها الأمريكيون وسواهم أن إيران لم تفعل شيئاً لإنقاذ فصيلها الفلسطيني البارز. ثم أنها لم ترد على اغتيال زعيمه السياسي إسماعيل هنية داخل طهران على رغم توعدها بذلك. وإذا صح أن إيران انتزعت مكاسب من واشنطن لقاء عدم الرد فإن هذا يطرح احتمالات منها: أولاً أنها أظهرت براغماتية مكيافيلية في اللحظة التي كانت تتظاهر بالثبات على أيديولوجيتها، وثانياً أنها انكشفت أمام أعدائها قبل أتباعها، والأخطر ثالثاً أنها عرضت فصيلها اللبناني- الإقليمي الأكثر أهمية استراتيجية ليس فقط لخطر الإضعاف بل لخطر الاجتثاث، بدليل الهجوم الإسرائيلي الجامح ضده وضد بيئته الاجتماعية الحاضنة.
تبين أخيراً بما لا يدع مجالاً للشك أن إسرائيل أمضت الثمانية عشر عاماً منذ حرب 2006 في ترتيب اختراق استخباري لـ«حزب إيران/ حزب الله» هو الأكبر والأكثر عمقاً، وقد توصل أخيراً إلى اغتيال الأمين العام لـ«الحزب» حسن نصرالله بقنابل خارقة للتحصينات بناء على «معلومة ذهبية». وبالنسبة إلى صفقة «البيجرات» وأجهزة الاتصال اللاسلكي أفاد بعض الاستقصاءات بأن قرصنتها كانت ثمرة عمل بدأ قبل خمسة عشر عاماً. وكانت نتائج الاختراق بكرت بالظهور خلال الحرب، أقله منذ اغتيال قائد «حماس» في الضفة الغربية خلال اجتماع في الضاحية في يناير الماضي، وتلته سلسلة اغتيالات للقادة الميدانيين في الجنوب، ثم تسارعت في الضاحية خلال الشهرين الأخيرين واستمرت مع الحرب الجوية الجارية المتأهبة للتحول إلى غزوٍ بري.
في غضون هذا الاختراق الإسرائيلي راح «الحزب» كان «الحزب» منشغلاً بتوسيع سيطرته على مفاصل الدولة اللبنانية والتلاعب بالأزمات الداخلية وصولاً إلى «استنخاب» رئيس للجمهورية وجعله في خدمته، ثم ذهب إلى سوريا للقتال إلى جانب نظام بشار الأسد ولمراكمة خبرته الحربية، وقد ارتد هذان الإنجازان على «الحزب»: لبنانياً بعدما استخدم «فائض قوته» في قمع الانتفاضة الشعبية وعرقلة التحقيق القضائي في جريمة تفجير مرفأ بيروت التي يُعتقد أن له علاقة بها؛ وسورياً باستعدائه معظم الشعب السوري وسقوطه «الأخلاقي» بارتكاب مجازر وجرائم في مساندته للنظام. كما أنه استعدى دول الخليج العربية سواء بتصنيعه لـ«الكبتاجون» والتمول بالتهريب أو باستخدام خبراته في تدريب ميليشيات «المحور الإيراني» من العراق إلى اليمن والبحرين وغزة، وكذلك «جبهة بوليساريو» الصحراوية.
غير أن الشعور بـ«فائض القوة»، والثقة المطلقة بـ«الأخ الأكبر» الإيراني، وبالصواريخ والأسلحة المكدسة في أنفاقه، وباندفاع عقائدي لا سقف له، قادته إلى ارتكاب المجازفة الكبرى، ليس فقط بدوره ووظيفته بل بوضع لبنان نفسه على مذبح أهدافه الإيرانية. كان يوحي بأنه واعٍ موازين القوى مع العدو الإسرائيلي، لكنه ظن أن بمستطاعه فرض قواعده وضوابطه على المواجهة، حتى إنه كاد يقنع الناس خارج بيئته بأنه أقام «معادلة ردع» مع العدو، وعندما بدأت إسرائيل الحرب الفعلية عليه إذا به فاقد زمام المبادرة وخط الرجعة.
وعلى رغم ما عايشه «الحزب» من ارتباك وتلكؤ إيرانيين واضطراره للذهاب وحده إلى الرد على اغتيال قائده العسكري فؤاد شكر، لم تساوره أي شكوك في الجمهورية الإسلامية التي تكال عليها اللعنات الآن في بيئته الحاضنة بعد تهجير مئات الآلاف منها وبالأخص بعد اغتيال نصرالله. كما أنه لم يقرأ جيداً ما حصل لـ«حماس» ولا انكفاء نظام الأسد عن «وحدة الساحات»، وبلغ من أسطرته لنفسه أنه لم يستشعر أن النبذ الدولي له يتحول ريحاً عاتية غيرت أحواله في غضون خمسة أيام فقط. بل لم يفكر في أي «تراجع تكتيكي» وفقاً لفتوى «الولي الفقيه»، وعندما لوح أخيراً باستجابته المتأخرة لاقتراحات أميركية وفرنسية قدمت إليه قبل شهور كان الأوان قد فات ودخلت الفأس في الرأس.
* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»