تشكّل اللغة إحدى المقومات الأساسية لقيام الأمم. هذا ما يؤكّده الباحثون في مسألة تشكّلها عبر التاريخ، بل يقول بعضهم إنها العامل شبه الوحيد. وبلجيكا تواجه اليوم مشكلة وحدتها الوطنية على قاعدة نزاع لغوي تاريخي متأصّل بين مكوّنيها الرئيسيين من الفلاماند في الشمال والوالون في الجنوب.

هذا النزاع اللغوي كان دائما في صميم الأزمات السياسية المتكررة التي شهدتها بلجيكا في تاريخها الحديث. إن الشرخ اللغوي بين الفلاماند الذين يتحدثون اللغة الهولندية ويمثّلون 60 بالمئة من مجموع البلجيكيين والوالون الذين يتحدثون اللغة الفرنسية، ليس سوى جزء بسيط من المشاكل التي تباعد بين المجموعتين. المشكلة الأهم تكمن على مستوى مطالبة الفلاماند بنصيب أكبر من الثروة الوطنية تناسبا مع ثراء منطقتهم بينما يصرّ الوالون على التضامن الوطني "المالي" بين جميع مناطق البلاد. ومشاكل أيضا على مستوى التمثيل السياسي والثقافي وتوزيع الوظائف وغير ذلك مما يتطلّب التقاسم.

بعيدا عن التشاؤم أو التفاؤل حول مستقبل وحدة بلجيكا يبقى الأهم هو ما يقوله الواقع. والواقع يقول إن الانتصار الذي حققه أصحاب النزعة القومية المتشددة من الفلاماند في الانتخابات التشريعية التي جرت في 13 يونيو الماضي يجعل من الانفصال أفقا ممكنا. لكن السؤال الجوهري الذي يطرحه كُثر: هل هذا هو الأفق الوحيد؟ ما يمكن تقديمه كإجابة سريعة وموجزة هي أن بلجيكا تواجه اليوم تزايد أخطار إمكانية تفجّرها.

الشعار الذي ترفعه بلجيكا كرمز لها منذ البداية هو: "في الاتحاد قوّة". ولعلّ هذا الشعار الذي عانى دائما من عدم الثبات يترنّح حقيقة هذه المرّة بعد فوز حزب "التحالف الفلامندي الجديد". رئيس هذا الحزب "بارت دو ويفر" يعلن صراحة أمنيته بحصول الفلاماند، بعد أجل، على "استقلالهم". الدعوة صريحة إذن للانفصال، ولو كانت مبطّنة مبدئيا بالإعلان عن رغبة تحويل البلاد إلى دولة تمتلك المناطق السلطات الحقيقية فيها. وهذا يعني خطوة على طريق انهيار بلجيكا بصيغتها الحالية.

اللافت للانتباه هو أن هذا الحزب، الانفصالي النزعة، قد ضاعف في الانتخابات الأخيرة عدد ناخبيه بالقياس إلى الانتخابات السابقة. لقد أصبح الحزب الأول في منطقة الفلاماند مما سيجعل من الصعب أكثر الوصول إلى تفاهم "وطني" لتشكيل حكومة جديدة في ظل الانقسام الحاد الجديد الذي أظهرته الانتخابات التشريعية الأخيرة. للتذكير كانت بلجيكا قد عانت منذ فترة قريبة من أزمة فراغ حكومي استمرّت شهورا طويلة.

مسألة تقدّم دعاة هامش استقلال أكبر بين الفلاماند لها صداها المقابل على الجهة الأخرى. ذلك أن العديد بين الوالون يطرحون مسألة انضمام منطقتهم، في حالة تفجّر وضع بلجيكا، إلى فرنسا. وقد دلّ استطلاع رأي جرى بين 5 و7 يونيو الماضي أن 66 بالمئة من الفرنسيين يؤيدون هذا الحل.

وتساؤل كبير أيضا حول تأثير نتائج الوضع الجديد في بلجيكا بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة على الاتحاد الأوروبي. هناك أوّلا مؤشّر تأكيد صعود النزعات القومية في أوروبا ممثلّة هذه المرّة بدعاة "الاستقلال" لدى الفلاماند. كذلك تتواجد المؤسسات الأوروبية ـ باستثناء البرلمان الأوروبي ـ في بلجيكا التي تترأس الاتحاد الأوروبي منذ مطلع شهر يوليو الجاري وحتى نهاية هذه السنة.

بلجيكا رئيسة لأوروبا بينما هي بدون حكومة مستقرّة ووحدتها الوطنية مهتزّة ومستقبلها يواجه المجهول، كما تردد صراحة في كتابات صحافتها نفسها بعد الإعلان عن نتائج الانتخابات الأخيرة. ما يمكن توقعه هو أن هذه الرئاسة لن تكون ذات فعالية كبيرة بخصوص العديد من الملفات الأوروبية في وقت تواجه فيه أوروبا صعوبات سياسية واقتصادية ومالية كبيرة. الفعالية تتطلّب بالضرورة بلجيكا مستقرّة واتحادا أوروبيا مستقرا.

فهل تنهار بلجيكا؟

كلاّ، كإجابة منطقية يمليها الواقع. ليس فقط لكون عملية فصل كيان يعمل موحّدا منذ زمن طويل هي في غاية التعقيد، ولكن أيضا لكون أنه ليست هناك أية أغلبيةـ بل تيارات تتقوّى ـ بين الفلاماند والوالون تريد حقيقة هذا الفصل. بالمقابل من الواضح أن بلجيكا تتجه صوب تعزيز سلطات المناطق على حساب الدولة المركزية.

سيناريو الانفصال هو الأقل احتمالا في المشهد الحالي ولكن لا يمكن استبعاده نهائيا؛ هكذا تقول نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة.