قبل عشر سنوات، ظهرت منصة عدة منصات تلفزيونية عالمية على الساحة، وفي تلك اللحظة، وإن لم ندركها تمامًا في حينها، تغيّرت عاداتنا إلى الأبد. لم يعد فتح كتاب لقضاء المساء ممارسة شائعة كما كانت، بل بدأنا نشهد تراجعًا كبيرًا في هذه العادة. أنا لا أزعم أن عام 2014 كان يعجّ بالقراء كما لو كانوا غالبية سكان العالم، لكن على الأقل كان هناك طيف من الناس ينغمسون في متعة القراءة بانتظام.

والآن، بعد عقد من الزمان، نرى أن هذا الطيف قد انقرض تقريبًا. القليلون فقط من يجدون في قراءة الروايات وسيلة لتمضية الوقت، بينما يفضّل أغلب الناس الانغماس في متعة استهلاك مسلسلات تتراكم في مكتبات منصات البث، المتاحة بلا حدود وفي أي وقت. وكأن هذه المنصات التلفزيونية وجهت الضربة القاضية لعادة القراءة التي كانت تحتضر على أي حال.

لسنا بحاجة إلى نظرة عميقة لنرى كيف انتقلنا خلال عقدين من الزمن من حضارة الكلمة إلى حضارة الصورة والصخب. شلالات من الصور والأصوات تحاصر عقولنا في دوامة لا تهدأ. لقد سلبت الشبكات الاجتماعية قدرتنا على التأمل والتفكير العميق، وحولت أدمغتنا إلى أراضٍ محروقة، حيث اندثرت براعة الفكر تحت وطأة الشعارات البسيطة والمبتذلة التي لا تسعى إلى الحوار أو الإقناع، بل تكتفي بترديد الرأي في أبسط صوره.


الشاشات أصبحت مقدساتنا الجديدة، والهواتف المحمولة تمثل ملاذنا. نعيش في حالة تشبّع دائم بالصور والأخبار والقصص التي تمر أمام أعيننا كبرق خاطف، حتى باتت قدرتنا على التركيز لا تتجاوز سوى دقائق معدودة، إن لم تكن ثوانٍ. أصبحنا أسرى الإشعارات، نحول انتباهنا دون تردد لرسائل الواتساب أو مقاطع الفيديو العشوائية التي تثيرنا، كفيديو يروي قصة تزاوج دببتين، قبل أن يتم استبداله بمشهد لرجل يفتح جراد بحر باستخدام لحيته!

المنصات التلفزيونية العالمية لم تكن سوى تسريع لهذا الانهيار الثقافي، إذ قدّمت بحرًا من المسلسلات بجودة متفاوتة وسعرٍ زهيد، بعضها عظيم، ولكن الأغلبية الساحقة مجرد محتوى ضحل، مصمم ليدمنه العقل دون مقاومة، مُبقيًا إيانا أسرى ليلًا بعد ليل، نلهث وراء قصص جديدة، ونهرب من أنفسنا.

لقد قدّمت هذه المنصات مخرجًا مثاليًا لمن يبحث عن الهروب من ذاته، عن طريق مكتبة لا تنتهي من العروض التي لا تتطلب سوى أريكة ومقدار ضئيل من الانتباه. ولكن هذه الرحلة اليومية في عالم الاستهلاك البصري قضت على قدرتنا على بذل أي جهد فكري. في كل مرة نغيب فيها عن أنفسنا، نصبح كائنات خاوية، أسرى لروايات ركيكة ومكتوبة بسرعة، تجردنا من أي قدرة على النقد أو التعمق.

اليوم، قراءة رواية ليست فقط مسألة وقت، بل هي أيضًا اختبار لقدرتنا على التركيز، على المثابرة التي لم نعد قادرين على استحضارها. فالدماغ أشبه بعضلة، إن عوّدته على استهلاك الصور السطحية، وإن لبّيت رغباته في الهروب المستمر، يصبح عاجزًا أمام تعقيد الجمل الأدبية التي تتطلب وقتًا لكتابتها وذوقًا خاصًا لفهمها. تصبح الرواية كما لو كانت معادلة غامضة أمام عقلٍ تآكل بفعل الاستهلاك المفرط للترفيه السريع. المشكلة ليست أن الناس توقفوا عن القراءة فقط، بل أنهم لم يعودوا قادرين على القراءة. لقد انهارت قدرتهم على التركيز إلى درجة تجعل القراءة، بما تتطلبه من جهد وانتباه، ضربًا من المستحيل. نحن نغرق في ثقافة «البيتزا»، نستهلك محتويات رخيصة وسريعة يومًا بعد يوم، ومع الوقت، نفقد القدرة على تذوق الأطباق الأكثر تعقيدًا والأكثر قيمة. يصبح الذوق ذاته شيئًا من الماضي، كما لو كنا مبرمجين لاستهلاك البيتزا فقط، دون تمييز.

المنصات التلفزيونية ليست سوى «وجبة سريعة» للثقافة. شيء ليس جيدًا ولا سيئًا، بل مجرد حل عملي نتبناه حتى لا نضطر إلى التفكير أو بذل الجهد. بالنسبة لكثيرين، هذه هي السعادة المعاصرة: سعادة مبنية على الهروب والابتعاد عن الذات، عن القراءة، وعن التفكير العميق.