تطمح ثورة البيوتكنولوجيا إلى الإنسان «المُستزاد»، كما يقول المفكّر المغربيّ محمّد سبيلا، عبر تقنيّات السعادة وإطالة العمر، وإصلاح الأعضاء التالفة، وتعويضها بأخرى أو تدويرها، وصولا إلى تحسين مرحلة الشيخوخة. تخليق عضويّ وعصبيّ، يشمل الجانبَ النفسيّ، بل حتّى الإبداعيّ الثقافيّ، بواسطة شريحة تُزرع في الدماغ. هذا الموضوع شائك ومعقّد، لأنه يتجاوز الحدود العقليّة والموضوعيّة والأخلاقيّة والشرط البيولوجيّ. هناك مُعارضون لذلك، بينما يعكف آخرون على تطويره وفرضه كأمرٍ واقع منذ 60 عاما.

الموجودات الأخرى من البحار والأشجار هي بدورها قابلة، بل مُستجيبة للتقنيّة، مثل مرونة الأشجار في مقاومة العواصف، وتقنيّة المدّ والجزر، وأثرها الفيزيائي على العالَم الذي يستمرّ ويتطوّر بالتقنيّة، وهي وجود كامل متأصّل، بحسب هايدغر، أي منظومة تشمل الأخلاق والعواطف والتربية والعِلم والأدب.

تخدم البيوتكنولوجيا القضايا الأمنية، والعسكرية أيضا، بزراعة شريحة أو تهجينها، تتحكّم بكود البطاقات البنكيّة وكلمات المرور لمواقع التواصل الاجتماعي، والتعقُّب الجغرافي المكاني، فضلا عن إشعال المصابيح وأجهزة التبريد، والاستماع إلى الموسيقى، واستجلاب المناظر السعيدة.


نعم، يُمكن تثوير وظائف الجسد البيولوجيّة والحسّيّة، ولكن في حدود قبول إنسانيّته وسائل السعادة والبقاء المُضافة إليه. ما فائدة التكنولوجيا بمعزل عن «الأخلاق» والمشاعر والوفاء والعهود؟ أي عدم السماح بمُجاوزة البشر. لم يعُد الطبّ علاجا فحسب، بل مُمارَسة تسمح بالإضافة العضويّة، وإطالة الشباب والعمر، وزيادة كفاءة الأعضاء عَبر أنْسنة الوسائل والأدوات. ذلك مقبول «أخلاقيّا» نوعا ما على الرغم من التحفّظات والاعتراضات.

نظرية «التفرُّد»:

إنسان ما بعد الإنسان

هل البيولوجيا والتقنيّة عدوّان أم صديقان؟


تطوَّرت سريعا ثورة البيوتكنولوجيا بعد أزمة كورونا، التي فضحت التقصير العلمي التقني حينذاك في مقاومة الأوبئة والفيروسات. كما أعلنت في الجانب الآخر هشاشة البشر وعجزهم عن المقاومة، فتغيَّر مسار البحث العلمي نحو نظريّة «التفرُّد»: إنسان ما بعد الإنسان، أي الهندسة الوراثيّة، تكنولوجيا زراعة الأجسام الإلكترونيّة في الجسد، الذكاء الصناعي، تكنولوجيا النانو (الأجهزة البالغة الدقّة) وصولا إلى عِلم التحكّم الذاتي، بحسب ريموند كيرزويل في كتابَيْه «التفرّد قريباً»، و«عصر الآلات الروحيّة»: لن يكون ثمّة أيّ فَرق ما بين الإنسان والآلة أو بين الواقع.. والواقع الافتراضي.

هكذا، سنُصادف الزواج والعلاقات الاجتماعيّة الافتراضيّة ورأس المال الافتراضي أيضاً.

الجسد في أُفق «ما بعد الحداثة»

ثمّة مَن يشير إلى خطّة عمل مُبيَّتة أصلاً لتجريد البشر من إنسانيّتهم وعواطفهم، وتسهيل القبول بالرداءة في كلّ شيء، والموافقة على التحلُّل الأخلاقي والعائلي، وصنْع الحروب والأزمات الماليّة، والتشجيع على الهجرات، والتنكُّر للهويّات الوطنيّة، بمعنى بلْورة مشروع كامل لتفتيت الإنسان، كي يقبل بمفهوم ما بعد إنسانيّته، فهل نحن إزاء إنسانيّة جديدة وتقنيّة جديدة؟ بمعنى «وجود» تقني شامل، يُضعف «إنساننا»، وتندحر معه إنسانيّته، فيصير وجودنا الرافض «التفرُّد» سلفيّا عضويّا، من حيث الدماغ والقلب والشرايين، بل من حيث الأحلام والإبداع؟!

يقول ماكس مور: «تعمل الإنسانيّة الانتقاليّة على توسيع دلالة الإنسان عبر مجاوزة الحدود الإنسانيّة عن طريق وسائل العِلم والتكنولوجيا اللّذَيْن تحدوهما روح الفكر النقدي الخلّاق»، أي انتقلَ الجسد الإنساني من شرطه التقليدي إلى أُفق ما بعد الحداثة.

هل الأخلاق هي التفرّد نفسه أم التقنيّة بوصفها أخلاقا جديدة؟

استأثَر موضوع البيوتكنولوجيا باهتمام الفلاسفة والمفكّرين، إذ لا تخلو مُختبرات البحث العلمي من خَليّةِ عملٍ تضمُّ الفلاسفةَ المُنظّرِين لهذه الثورة، فضلا عن الفنّانين، وهُم يعكفون على تصاميم للأعضاء البشريّة في حلّتها الجديدة، أي التخطيط لمُستقبلٍ يَعتمد على الصناعات البيولوجيّة الرقميّة وصولا إلى اقتصادات التقنيّات البيولوجيّة والحربيّة.. جنود شجعان لا يخافون الموت من خلال زرع شريحة في أجسادهم. بينما لا يوجد للأسف أيّ اهتمامٌ علمي أو فلسفي أو أدبي عربي بهذا الموضوع (تُعَدّ أوروبا متخلّفة في البحث البيوتكنولوجي مقارنةً بأمريكا والصين).

يقول أستاذ الفلسفة والباحث في الجماليّات محمّد الشيكر: «تجاوَزَ خطابُ الإنسانيّة المُتعدّية الحديثَ عن إنسانٍ جديد مزيّد عبر الوساطات التكنولوجيّة إلى التطلُّع لإنقاذ الإنسان، وخلاصه من شرطه البيولوجي القائم. إنّ فلسفات «ما بعد الحداثة» ما انفكّت تصدعُ، منذ عقود خَلت، ببزوغ إنسانٍ جديد يُنصِّب نفسَه كقوّة بروميثيوسيّة مائزة، وكذاتٍ مُنتجة للمعنى، صانِعة مُمكنات الوجود وفاعلة في أحداث التاريخ وصروفه، إلّا أنّ فكر «ما بعد الحداثة» انصرفَ من جهته إلى إعلان أفول هذه السرديّة الحداثيّة، ونَعيِ نهاية هذه الميثولوجيا الإنسيّة التي تنهض على ما يَسِمُه ميشال سير (رعب كلّ أنطولوجيّة مُمكنة)».

لا غنىً عن البيوتكنولوجيا لمستقبل الإنسان ورفاهيّته، إذ تطوَّر الطبّ النموذجي العلاجي إلى ما يسمّى «الطبّ الاستزادي» بفعل التقنيّة - الزمن، هكذا نشاهد الإضافات على النَّوع البشري فيما يخصّ الهندسة الجينيّة، وتحسين النسل عضويّا، وتقوية الذاكرة، وإطالة عُمر الإنسان أيضا، وسوف نشاهد مستقبلا محلّات قطع غيار للأعضاء البشريّة، وخليّة إلكترونيّة لتوليد مشاعر السعادة مُحاكاةً للهواتف النقّالة والحواسيب، واليو إس بي.

دماغ الإنسان متجاوزا حدوده التقنيّة

يقول الفيلسوفُ الألماني سلوتردايك: «تطمح الأنثربولوجيا التكنولوجيّة إلى بلوغ مرحلة التخطيط الظاهر للخصائص كافّة التي يُمكن للإنسانيّة أن تستوفيها. فهل يترتّب عن ذلك أنّ الإنسانيّة بمكنتها أن تُحقِّق على صعيد النَّوع نقلةً من جبريّة الولادة إلى ولادة اختياريّة وإلى انتقاء قَبل الولادة؟»، وهذا ما أنجزه العِلم راهنا، ونتعايش معه يوميا في تجارب تحسين النسل والتلاقُح الجيني، كما نراه على صعيد البيولوجيا الزراعيّة والأغذية المُعدَّلة وراثيّاً.

يُعَدّ تطوير الدماغ بما نسمّيه «الدماغ المُعزَّز أو المستزاد» أخطر مرحلة في الثورة البيوتكنولوجيّة التي تسمح بتطوير أعضاء الجسم الأخرى بسهولة، بقدر نجاح أو فشل تلك التجربة. يقول البروفيسور الروسي ألكسندر كابلان، مؤسِّس ومدير مختبر الفيزيولوجيا العصبيّة والواجهات العصبيّة الحاسوبيّة في جامعة موسكو، ما مفاده: «الدماغ قوّة استثنائيّة هائلة، لا تُضاهيها أعظم الكمبيوترات وأكبرها، وهو لا يحتاج إلى تطوير، أو تعزيز لقدراته. لكنّ وسائل التواصل الاجتماعي والكمبيوتر ووسائل الإعلام أَسهمت في تحجيم عمل الدماغ، وذلك بجعْله يتكيَّف مع الرداءة والسهولة وعدم التفكير والبحث، ولا يَستعمل طاقته الفعليّة في التفكير والإبداع».

إذاً، الحلول الجاهزة، ووسائل الإلهاء تُضعِف التفكير، وتجعل الإنسانَ هشّا بيولوجيّا، وغير مستغلّ لطاقاته. وهكذا، يَستنتج كيرزويل عدم استطاعة الإنسان مستقبلاً، وبحدود العام 2045، التعامل مع بيئته بسبب عجز قدراته العقليّة.. اللّهمّ إلّا من خلال التدعيم الرقمي البيوتكنولوجي.

البيوتكنولوجيا في سيرة يوتوبيّة

لم ينفكّ الإنسان عن العمل على تطوير إمكاناته العقليّة والعضويّة وخياله، متخطّيا شروطه القدريّة، فاستعمل جناحَيْن للطيران كما في تجربة العالِم العربي عبّاس بن فرناس، وقَبل ذلك انشغلتِ الأساطير بتعزيز مفهوم «الإنسان السوبر»، و«ملحمة جلجامش»، والبحث عن الخلود بيولوجيّاً، وحكايات «ألف ليلة وليلة»، ثمّ قصص «علاء الدّين والمصباح السحري»، وبساط الريح. كما عملت السينما على تعزيز حلم الإنسان الخارق، فضلا عن كيمياء تحويل المعادن إلى ذهب اقتفاءً بالحديث القدسيّ: «يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا غَنِيٌّ لاَ أَفْتَقِرُ.. أَطِعْنِي فِي مَا أَمَرْتُكَ أَجْعَلْكَ غَنِيّاً لاَ تَفْتَقِرُ، يَا ابْنَ آدَمَ أَنَا حَيٌّ لاَ أَمُوتُ.. أَطِعْنِي فِي مَا أَمَرْتُكَ أَجْعَلْكَ حَيّاً لاَ تَمُوتُ، يَا اِبْنَ آدَمَ أَنَا أَقُولُ لِلشَّيْءِ كُنْ فَيَكُونُ.. أَطِعْنِي فِي مَا أَمَرْتُكَ أَجْعَلْكَ تَقُولُ لِشَيْءٍ كُنْ فَيَكُونُ..».

* كاتب عراقي مُقيم في أمستردام

* ينشر بالتزامن مع دورية «أفق» الإلكترونية