أول فكرة انتحارية رواها التاريخ كانت في العصر الفرعوني كتبها مصري قديم، تمنى لو أن لديه القدرة على إنهاء حياته لكن روحه منعته خوفاً، وفي حواره البائس قال، «إن روحي تظلمني، ولكني لا أستمع إليها، أحاول أن أجرَّ نفسي إلى الموت قبل أن يصل إليَّ الموت، سألقي بنفسي في النار لأموت حرقاً بها، لكن روحي الغبية تمنعني، وتحول دون إقدام إنسان بائس على الموت». وفي خطابه الانتحاري قال مبرراً قراره قبل الموت:

لمن يمكنني التحدث اليوم؟

فكل الرفقاء صاروا أشراراً


أصدقاء اليوم لا يحبونني

لمن يمكنني التحدث اليوم؟

لا أحد يعرف إن مات هذا على يديه أو انتظر ملك الموت، وقال بعض علماء التاريخ، إن هذا الخطاب كُتب في عصر امتاز بالفوضى وعدم الاستقرار السياسي والاجتماعي، تحديداً في نهاية حقبة الدولة المصرية القديمة، أي ما بين 2181-1991 قبل الميلاد. وهذا دليل على أن الفوضى وعدم الاستقرار الاجتماعي والضغوطات من أهم أسباب فكرة إنهاء الحياة طلباً للراحة. أكثر الذين انتحروا تركوا خلفهم رسائل تبرر فعلهم، وبقيت شاهدة على استسلامهم التام. كتبت داليدا المغنية الفرنسية/ المصرية في رسالتها الأخيرة «الحياة لم تعد مُتحملة بالنسبة لي، سامحوني». التاريخ مليء بقصص الانتحار والمنتحرين، يجمعهم اليأس، الإحباط، والعجز عن تحمل واقعهم وكثيراً ما يقترن بالاكتئاب.

منظمة الصحة العالمية نشرت على موقعها الشهر الماضي، أن في كل عام يضع 703 آلاف شخص نهاية لحياته، رغم أن عدد حالات محاولات الانتحار أكبر من ذلك بكثير. ويحدث الانتحار في أي مرحلة من مراحل العمر، وصُنف عالمياً في 2019 رابع أهم سبب للوفاة للذين أعمارهم بين 15 و29 عاماً.

الانتحار ظاهرة اجتماعية، تعيشها كل المجتمعات الإنسانية، قد تكون التنشئة الأسرية، الظروف الاجتماعية، بيئة المدرسة أو العمل هي السبب، وكما قال عالم الاجتماع الفرنسي دوركايم، «لكل مجتمع في لحظة من تاريخه استعداد محدد للانتحار» فإن نسبة الانتحار تختلف من بلد لآخر، بحسب ظروفها الاقتصادية والاجتماعية. ازدادت نسبة الانتحار عربياً، بعدما كانت شيئاً لا يُذكر في الإحصائيات العالمية، وتكثر بين اليافعين والشباب. ووجدت بعض الدراسات أن للأسرة دوراً كبيراً في خلق فكرة «الخلاص من الحياة» نتيجة التسلط ورفع مستوى التوقعات ووضع الأبناء تحت ضغط كبير. وتبين أن النمط التسلطي في معاملة الأطفال يزيد من الاضطرابات النفسية والسلوكية لديهم، وبالتالي التفكير بإنهاء حياتهم. تأثير الأسرة ليس تنشئة فقط بل حتى جينياً، فقد أظهرت دراسة سويدية/ أمريكية جديدة أن الأشخاص الذين انتحر واحد من ذويهم يتعرضون لخطر إقدامهم على الانتحار بثلاثة أضعاف الآخرين. ربما الأمر له علاقة بالاكتئاب، ففي مطلع ستينيات القرن الماضي انتحر الكاتب الأمريكي «هيمنجواي» اقتداء بأبيه الذي قتل نفسه وكأنه ورثه الجين ذاته. لكن بالطبع الوراثة تشكل عاملاً واحداً ضمن عدة عوامل تزيد من نسبة الانتحار، الجندر له دور كذلك، فالضحايا أكثر بين الذكور، بينما نسبة محاولات الانتحار الفاشلة أكثر بين الإناث.

هناك مؤشرات خطيرة تدل على تفكير الشخص بالانتحار، لا بد من ملاحظتها والتدخل المبكر لمنع تحول الفكرة لواقع، كالانسحاب الاجتماعي أو العزلة، تدنِّي الدرجات في المدرسة أو التخلِّي عن المقتنيات المفضَّلة، الحديث عن الانتحار حتى وإن كان مزحاً، من الممكن أن تكون أمنيته الموت، بالذات في حالات الإحباط أو وجود ضغوطات حياتية، والشكوى من التنمر أو الفشل المستمر، تقلبات المزاج والقلق، تغيرات في نمط النوم، إمّا بكثرة النوم أو قلته. حق الأبناء على أبويهم هو الحماية والدعم، لذلك يتوجب على الأسرة إدراك أن الحياة ليست كما كانت، وأن الأبناء مسؤولية. المنتحر ما هو إلا نتاج أسرة غير سوية ووضع اجتماعي غير مستقر، مع غياب الدور الفعال للأخصائيين النفسيين أو الموجهين الطلابيين، وخجل البعض من زيارة الطبيب النفسي أو الأخصائي النفسي لاعتقادهم أن الطب النفسي للمجانين فقط.