بين مدريد والرياض والقاهرة، كان هناك تداول سياسي في اليوم الحالي لغزة و«اليوم التالي» الشهير. لم تكن هناك مشاركة معلنة للولايات المتحدة (ولا لإسرائيل) في الاجتماع الأوروبي مع مجموعة الاتصال الوزارية العربية- الإسلامية في مدريد، ولا في اجتماع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي في الرياض الذي ترافق مع انعقاد اللقاء المشترك للحوار الإستراتيجي بين مجلس التعاون وكل من روسيا والهند والبرازيل. أما الاجتماع الوزاري الدوري لمجلس جامعة الدول العربية في القاهرة فشهد حضوراً تركياً وأوروبياً. ومن الواضح أن هناك دلالات سياسية خاصة بكل من هذه الفاعليات، فالانشغال الأمريكي بالانتخابات الرئاسية أفسح في المجال لأول بحث عربي- أوروبي في المرحلة الفلسطينية المقبلة، بمعزل عن التحفظات أو الخيارات الأمريكية - (الإسرائيلية) لأنها في أقل تقدير مضللة. وأظهر الاجتماعان الآخران مواقف عربية وخليجية، مبدئية وعملية، تتجاوز غموضاً كان يكتنف بعضاً من الخيارات، وتشير الى تطابق مع مواقف أطراف أوروبية أو دولية مهمة. أما ماذا يمكن أن يُرتجى من التوافقات، وإلى أي حد يمكن أن تكون مؤثرة، فهذه مسألة أخرى.

الحرب على غزة وتداعياتها على الشرق الأوسط تقلق دول الاتحاد الأوروبي، وعادة ما يشار أولاً وسريعاً إلى تدفق اللاجئين باعتباره الخطر المباشر على هذه الدول، أمنياً وسياسياً (داخلياً)، لكن الحكومات الأوروبية نادراً ما تصرح بما يقال في أروقتها عن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وإنه مصدر الخطر والتوتر الدائمين في المنطقة المتاخمة لبلدانها، بل إنها لم تعمل على أساس أن هذا الخطر منافٍ للقانون الدولي وللمبادئ العامة التي تجمع بينها داخل الاتحاد الأوروبي. وهي تركت الولايات المتحدة لتقرر- خارج القانون الدولي- ما يصلح وما لا يصلح في الشرق الأوسط، والتحقت بخيارات واشنطن وانحيازها الدائم لإسرائيل وإجحافها الدائم بحقوق الفلسطينيين، وتبنت دائماً مبدأ «أمن إسرائيل» أهم من أمن الفلسطينيين والعرب.

على رغم أن المجتمعات الأوروبية صُدمت بما يحدث في غزة وتفاعلت معه إنسانياً، فإن سياسات حكوماتها استعادت نزعاتها القديمة سواء بتجريم من يؤيد الحق الفلسطيني أو بقمع تظاهرات الاحتجاج على الوحشية الإسرائيلية في غزة، إلى ما هنالك من ممارسات مخزية انفردت بها ألمانيا. فإلى أي حد يمكن تصديق اهتمامها بـ«حل الدولتين» وكيفية تطبيقه، وهو محور الاجتماع الذي انعقد في مدريد؟ هناك عواصم أوروبية عدة جددت دعم إقامة دولة فلسطينية كعبرة مستخلصة من الحرب، لكن أربع دول فقط في الاتحاد (من أصل 28) اعترفت بهذه الدولة التي سبق أن نالت اعتراف 146 دولة من أصل 194 أعضاء في الأمم المتحدة. وفي المقابل ناقشت دول أوروبية عدة وقبلت سراً إلجاء أعداد من المرحلين قسراً واضطراراً من غزة، وهذا من أبرز أهداف إسرائيل في حربها، كونه يزكي احتلالها للقطاع، وهو هدفها الأكبر.


التقت اجتماعات مدريد والرياض والقاهرة على فكرة واحدة هي «إقامة فعلية لدولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، تضم الضفة الغربية وقطاع غزة، وتحكمها السلطة الفلسطينية مع تعزيز مؤسساتها». فيما استعاد قرار الجامعة العربية تأكيدها أن «دولة فلسطين هي صاحبة الولاية على أراضي الدولة كاملة»، مع الإشارة إلى ضرورة «استعادة الوحدة الوطنية تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني»، وأهمية «تمكين الحكومة من تولي مهماتها بشكل فاعل في كل أراضي الدولة الفلسطينية». لعل مصطلح «الإقامة الفعلية للدولة الفلسطينية» هو الأكثر تعبيراً عما هو مطلوب الآن، لكنه يجب أن يُستبق ويُلحق بسلسلة إصلاحات لوضع الإسرائيليين والفلسطينيين تحت أحكام القانون الدولي بلا استثناء.

أضافت الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي إلى «إصلاح» السلطة الفلسطينية كأولوية- وهو أيضاً مطلب فلسطيني، مطلباً آخر هو ضرورة تفكيك البنية العسكرية لحركة «حماس»، وهو أيضاً مطلب عربي. لكنهما لا يملكان أي مبادرات موثوق بها لمرحلة «ما بعد»: ماذا بعد تصفية أي مقاومة مسلحة، هل أن تصرف إسرائيل حيال حركة «فتح» والسلطة مع إسرائيل أعطى نموذجاً يُحتذى، هل يستطيع الأمريكيون والغربيون ضبط السلوك الإسرائيلي، وهل لديهم مشروع سلام حقيقي للفلسطينيين؟ هناك إصلاح جذري آخر مطلوب، لكن لا أثر له في السياسات الحالية، وهو إصلاح المقاربة الأمريكية والأوروبية لإسرائيل نفسها، ولسياساتها العنصرية والاستيطانية وممارساتها الوحشية وقد بلغت حالياً ذروة الإبادة الجماعية مع التجويع المستمر وقصف النازحين ومنع الأمم المتحدة من أي رعاية لهم. لا يمكن أن تتوفر مصداقية لأي حديث عن السلام أو «حل الدولتين» مع مواصلة التزكية الأمريكية- الغربية، ضمناً وعلناً، للوظيفة الاستعمارية التي لا تزال إسرائيل تتمتع بها وتمارسها، ولا عذر حقيقياً للأطراف الغربية في تغاضيها عن عنف اليمين الإسرائيلي المتطرف ومستوطنيه بذريعة أن ممثليه منتخبون «ديمقراطياً».

دعا الاجتماع الخليجي إلى الاستعداد بـ«خطة متكاملة» لعودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة عند انتهاء الحرب، والتقى مع الاجتماع العربي على رفض الفصل بين الضفة والقطاع كما نصت عليه مخططات إسرائيل لـ«اليوم التالي»، كما أن قرار الجامعة أوصى بالدعم المالي اللازم لدولة فلسطين ضمن «شبكة أمان مالية شفافة ومتفق عليها»، لأن أي حكومة عائدة إلى غزة مطلوبٌ منها أن تواجه الأعباء الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن الحرب، إضافة إلى مواجهتها الإجراءات العقابية التي اتخذتها إسرائيل بقرصنة أموال الضرائب الفلسطينية. لا شك أن «الخطة المتكاملة» المطلوبة لعودة السلطة تحمل اقتناعاً خليجياً وعربياً بأنه لا بديل منها لإدارة القطاع بمعزل عن «حماس» وتحسم الجدل حول «طرف فلسطيني ثالث» لهذه الإدارة كغطاء لاحتلال إسرائيلي متجدد للقطاع.

لكن ما يحسم فعلاً هو أن يكون هناك موقف أمريكي- غربي واضح يرفض هذا الاحتلال، أقله عملاً بالرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الذي أفتى بعدم قانونية الاحتلال في القطاع كما في الضفة. أما الاستمرار الأمريكي- الغربي على الغموض الحالي فيمنح إسرائيل فرصاً كثيرة كي تسوق أن «أمنها» يتطلب بقاء قواتها حيث هي الآن، حتى في محور فيلادلفيا ومعبر رفح، ولو كلفها ذلك أن تتخلى عن أسراها عند «حماس».

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»