وصلنا في المقال السابق إلى (ثورة 17 تموز) 17 يوليو 1968، التي وصل من خلالها حزب البعث العراقي إلى سدة الحكم للمرة الثانية، وهذا الوصول جعل الجماعة الإرهابية في العراق تتخذ إجراءات لا يتم اتخاذها إلا في مراحل الخوف والترقب، فلذا أوعزت القيادة إلى أتباعها أخذ الحيطة والحذر الشديد، والتوقف عن الاجتماعات واللقاءات وإصدار النشرات والبيانات، وإخفاء كتب الدعوة (الكتب التنظيمية).

وظل الترقب سائدًا وحاكمًا على المشهد واستمر الوضع كذلك حتى مشارف عام 1970، وحينها بدأ الحزب الحاكم (البعث) بالتضييق الفعلي على الجماعة الإرهابية التي يعرفها جيدًا، ويعرف قياداتها وأعمالها ونواياها، فبدأت الإيقافات الأمنية، وبدأ تضييق الخناق على العمل الحركي، واستمر الوضع يزداد سوءًا حتى تدخل «محمد سمير التكريتي» وزوجته، وكان عديلًا للرئيس العراقي «أحمد حسن البكر»، وكذلك تدخل «خير الله طلفاح» خال «صدام حسين»، وابنه «عدنان طلفاح»، الذي كان إخوانيًا في أول مراهقته، الأمر الذي طمأن الحزب بعض الشيء، ولولا هذا التدخل لفتك الحزب بالجماعة، الأمر الذي جعل الجماعة تلتقط بعض أنفاسها، وتعيد تقييم الوضع وتدرسه بشكل أعمق، وبعد تقييم الواقع السياسي والأمني من 1968 وحتى 1970، قررت الجماعة إيقاف التنظيم، والعمل على إبعاد أعضاء الجماعة وشبابها العاملين خوفًا من التصفية، وصدر الأمر إلى أعضاء الجماعة كافة بتنفيذ هذا القرار، والاكتفاء بالعمل الإسلامي العام، والعمل على الدعوة الفردية في إطار العائلة والأصدقاء وزملاء العمل، وذلك للمحافظة على أصول التنظيم وكادره البشري.

كان توقف نشاطات الجماعة الإرهابية التنظيمية والحركية، فرصة كبيرة لتصفية الصف الإخواني من الضعفاء والمترددين، حتى لا يبقى في الصف إلا من كان قويًا، شديد المراس، لتكون العودة حينما يرجع التنظيم للعمل تحت ضوء الشمس مرة أخرى قويًا وفاعلًا، وهذا الأمر عين ما يحدث الآن في بعض البلدان التي يضيق فيها على الجماعة الإرهابية وكوادرها.


في هذا الظرف الدقيق اختفى «محمد أحمد الراشد» عن الأنظار تمامًا، بناء على توجيهات القيادة، لمدة تزيد على تسعة الأشهر، حتى ظهر في الكويت سنة 1972، وهنا أتوقف عن الحديث عن مسيرة الجماعة الإرهابية في العراق، لأنتقل إلى الحديث عن سيرة الراشد ومسيرته ابتداء من المقال القادم، وأود أن أشير على عجالة إلى فكرة وهي: أن العلامات الفارقة في قيادة الجماعة الإرهابية بعمومها، هم السداسي: حسن وسيد ومصطفى، والمحمدون الثلاثة، أما البقية فهم منفذون إما جيدون نَفَذوا بالجماعة من حقول ألغام غاية في الخطورة، أو حمقى كادوا يضربون الجماعة الإرهابية في مقتل، ومن هؤلاء المنفذين الجيدين: «عمر التلمساني»، و«يوسف ندا»، و«فتحي يكن»، و«عبدالله عزام»، و«مناع القطان»، و«عصام العطار» في غالب عمله، ومن الحمقى وهم غالب قيادات الجماعة في الأقطار العربية: «حسن الهضيبي»، و«عبدالقادر عودة»، و«محمد الغزالي»، و«يوسف القرضاوي»، و«حسن الترابي»، و«راشد الغنوشي»، و«محفوظ النحناح»، و«عباسي مدني» وغيرهم كثر.

أما السداسي الخطير بحسب ترتيب الميلاد، وترتيب الأسن، «فسيد قطب»: (9 أكتوبر 1906 – أغسطس 1966)، و«حسن البنا»: (14 أكتوبر 1906 – فبراير 1949)، و«محمد قطب»: (أبريل 1919 – أبريل 2014)، و«مصطفى مشهور»: (سبتمبر 1921 – أكتوبر 2002)، و«سرور (أو محمد سرور) بن نايف زين العابدين»: (غير معروف شهر ولادته من سنة 1938 – نوفمبر 2016)، و«عبدالمنعم بن صالح العلي العزي» أو «محمد أحمد الراشد»: (يوليو 1938 – أغسطس 2024)؛ «فحسن البنا» هو مؤسس الجماعة، والتي بدأت فكرتها من سنة 1921، وتبلورت في سنة 1928، وهو الذي خلق روحها وعقلها السياسي والحركي والفكري، وانتقل بها من فكرة إلى واقع، ثم إلى أثر ملموس، ثم إلى جائحة فكرية وحركية مدمرة، أما «سيد قطب» فقد بلور عبر عمل جريء ومجرم، حمى الله منه القاهرة وناسها في آخر اللحظات (تنظيم 65)، مع أفكار لا تزال حية إلى اليوم يمكن تلخيصها في خمس صفحات من كتابه «معالم في الطريق»، (طبع لأول مرة في القاهرة، سنة 1964)، التي أنتجت ما يمكن اعتباره بلغة التخطيط الإستراتيجي اليوم: الرؤية والرسالة والقيم والأهداف العامة للجماعة الإرهابية، أما «محمد قطب» فقد لعب دورين مهمين هما المحافظة على تراث «سيد قطب» باعث الجماعة في عهد تجديدي، والذي أعادها إلى المسار الذي اختطه حسن البنا من التأسيس، 1928)، وحتى رسالة (نحو النور، 1947) ثم فضيحة «الفضيل الورتلاني» و«عبدالحكيم عابدين» و«مصطفى الشكعة» في اليمن مع ثورة 1948، والثاني بناء مسار أكاديمي إخواني في عدة جامعات عربية، وعلى الأخص في الخليج، كما أسهم مع مجموعة من الإخوان أبرزهم «أنور الجندي» في إغراق المكتبة (المحتوى) العربية بكتب تحمل الروح والفكر الإخواني، أما «مصطفى مشهور» فهو الرجل الذي أعاد التنظيم الخاص إلى الواجهة، وصدره ليقود الجماعة، بعد صراعات تنظيمية يطول شرحها، ثم نشط لترتيب التنظيم الدولي، وبسبب ذلك رفض تولي منصب المرشد العام بحسب وصية «التلمساني»، وقدم «محمد حامد أبوالنصر»، ليكون حر الحركة، ويقود الجماعة الإرهابية من خلف الكواليس، ثم انتخب بعد «أبوالنصر» في البيعة التي عرفت ببيعة المقابر، أما «سرور بن نايف بن عبدالغني بن زين العابدين (الحريري)»، أو عبدالله الغريب، أو محمد النايف، فهو قمين بأن يوضع في خانة الحمقى من قيادة الجماعة، لعجلته وسورة غضب تعتريه في غالب الأحيان، وارتجالياته الفادحة في الرأي والحركة، ولكنه شق الجماعة بطريقة غير مسبوقة ولا ملحوقة، مما حفر أثره عميقًا في تاريخ الجماعة، أما «محمد أحمد الراشد» فهو حديث مقالاتنا هذه.

وأشير إلى أنه لفت انتباهي أن الحديث عن تنظيمات الجماعة الإرهابية في الأقطار العربية يأتي غالبًا بشكل مشوه أو مجتزأ، وكثيرًا ما قرأت في بعض الدراسات وأوراق العمل المنشورة في تاريخ الإسلام السياسي، الخلط الكبير في الأسماء والمواضع والتواريخ حين الحديث عن السعودية خصوصًا، وهذا له حديث قادم -بمشيئة الله- تحت عنوان «نقد القول في الصحوة» نستعرض فيه ما قيل عن الصحوة في السعودية في أهم الدراسات والأبحاث.