لم يكُن صوت إدغار موران الوحيد في هذا الإطار بالطبع، إذ إنّ موران وكثيرين غيره، من عرب وأجانب، كانوا قد رفعوا الصوت منذ عقودٍ استنكاراً للحالة التي وصلتْ إليها البشريّة، حين راحَ يتكشّف شيئاً فشيئاً تهافُت وعود النّظام العالميّ الجديد بالسلم والرفاه ورغد العيش، بحيث لم تكُن كورونا إلّا محطّة عُوِّل على استخلاص الدروس منها تأكيداً على صوابيّة كلّ الرؤى السابقة، الفلسفيّة والفكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والبيئيّة والأدبيّة والفنيّة.. وغيرها، التي نبَّهت من المَسارِ المُقلق للنظام العالَمي الجديد وتداعياته منذ أواخر الألفيّة الثانية على وجه التحديد.
في كتابه المذكور يتساءل موران: "هل سنتمكّن من تنظيم الاقتصاد العالَمي، والحدّ من قوّة الرأسماليّة المفرطة، وإصلاح الأنظمة المصرفيّة، والسيطرة على المضاربة في الأسهم، ومنع التهرُّب الضريبي؟ هل سنَجد مبادئَ اقتصادٍ يقوم على صفقة جديدة من الانتعاش البيئي والإصلاح الاجتماعي من شأنها أن تُفضي إلى تراجُع الرأسماليّة المفرطة والحدّ من عدم المساواة؟".
الجواب نقرأه في الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة التي تَلتْ انحسار جائحة كورونا والتي يشهد العالَم بأسره فصولها، والتي جاءت كاستكمالٍ للأزمات التي سبقت زمن كورونا بأشواط، والتي لخَّص برتران بادي أسبابها بعنوانٍ واحدٍ هو "الهَيْمنة"؛ أي إخضاع العالَم للهَيْمَنة بطريقةٍ أشدّ ضراوة، ومن خلال أساليب تتّسم بالطّابع "العِلمي" على حدّ تعبيره، "حيث كان يتمّ "تطهير"، وربّما بشكلٍ نهائي، "العالَم الثالث" من أيّة توجّهات تعود إلى النهج الدولاني والاشتراكي والتي تُذكِّر بعدوى النموذج السوفياتي(..) [و] الإعداد لنظامٍ عالَمي جديد يسود فيه اقتصادُ السوق، وبالتالي يعيش تحوّلاً قويّاً في اتّجاه نموذج الديمقراطيّات الغربيّة"(الهيمنة على المحكّ، تر. د. جان جبّور، ط1، بيروت، مؤسّسة الفكر العربيّ، ص 153).
فرحنا نشهد ارتفاعاً كبيراً في الواردات في دولة الإكوادور، وإفقاراً لصِغار المُزارعين في غانا، وأزمات الشركات الصغيرة والمُتوسّطة، وتفاقُماً للبطالة، وتدهوُراً في الخدمات العامّة الأساسيّة في البلدان التي ينعدم فيها الأمن البشري المتزامن مع انتهاء الدعْم للضروريّات الأساسيّة، وتراجُعاً في القوّة الشرائيّة ...إلخ؛ وهي كلّها مظاهر أو نواتج للهيْمَنة العالميّة التي وُوجِهت أدواتها (مثل منظّمة التجارة العالميّة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومجموعة الدول الصناعيّة السبع...) باحتجاجاتٍ اجتماعيّة وعالميّة وعبر وطنيّة: احتجاجات فنزويلا في (فبراير) 1989، في مُواجَهةِ خطّة التكيُّف الهَيكلي، واحتجاجات في تونس في (ديسمبر) 1983، وفي المغرب في (يناير) 1984، وفي مصر في العام 1986، ثمّ في ساحل العاج والغابون في (فبراير) 1990، وفي زائير في (ديسمبر) 1990، وفي زامبيا في (يونيو) 1991، وفي ملاوي في (مايو) 1992...إلخ.
"علماويّة" البرامج النيوليبراليّة
"علماويّة" البرامج النيوليبراليّة والسياسات الماليّة والنقديّة للاقتصادات المتقدّمة التي اتّبعها صندوق النقد الدوليّ والبنك الدوليّ وغيرهما من المؤسّسات الدوليّة في مساعدة البلدان على النهوض من عثراتها الاقتصاديّة، سرعان ما كانت تُظهر تمثيلها للمصالح الدوليّة الكبرى، وتنمّ عن فشلِ وصفاتها؛ إذ أفضت هذه السياسات المتمثّلة في تقديم برامج قروض ومساعدات ومراجعات استشاريّة تقييميّة إلى حالاتِ تعثُّرٍ اقتصادي للبلدان التي لجأت إليها. ففي أكثر من دولة في العالَم كان يُصار إلى الدّفع بالبلد المتعثّر اقتصاديّاً إلى الاستدانة والقيام بإجراءات تقشّفيّة تسبَّبت بانهيارٍ كبيرٍ جدّاً لعُملته وبتمركزٍ كبير للثروة وتفشّي الفساد، فضلاً عن تراجُع الموادّ المدعومة من الدولة والانخفاض في الأجور والبطالة وغيرها من الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة. فالمُلاحظ مثلاً أنّ الدول الأكثر استدانة من صندوق النقد الدوليّ على مستوى العالَم هي نفسها من أكثر الدول التي تعاني من أزمات اجتماعيّة وسياسيّة، من دون أن يعني ذلك عدم مُعاناة دول عربيّة وأجنبيّة عديدة أخرى من هذه الأزمات، وأبرزها لبنان مثلاً، وإن كانت غير مُدرَجة ضمن تلك القائمة.
يأتي ترتيب أكثر 10 دول استدانةً من صندوق النقد الدوليّ على مستوى العالَم (المنشور بتاريخ 4 أبريل/نيسان 2024 على موقعه الرسميّ) كالآتي: الأرجنتين 43 مليار دولار- مصر 14.93 مليار دولار- أوكرانيا 12 مليار دولار- باكستان 7.74 مليارات دولار- الإكوادور 7.72 مليارات دولار- كولومبيا 4.34 مليارات دولار- أنغولا 4 مليارات دولار- كينيا 3.4 مليارات دولار- جنوب أفريقيا 3 مليارات دولار- غانا 2.74 مليار دولار.
بالتالي، مَن منّا لم يُعايِن تظاهرات مئات الآلاف من الأرجنتينيّين في بوينس آيرس وغيرها من المُدن في الأرجنتين التي جرت في نيسان/ إبريل 2024، احتجاجاً على السياسات التقشّفيّة للرئيس خافيير مايلي ودفاعاً عن مجّانيّة التعليم العامّ؟ أو ثورة يناير2011، و"جمعة الغضب" في أيلول/ سبتمبر 2020 احتجاجاً على تدهور الأوضاع المعيشيّة في مصر التي تُعاني من أزمة كهرباء ومن أسوأ أزمة اقتصاديّة منذ عقود تسبَّبت بتآكُل مدّخرات المصريّين؟ أو "ثورة الحريّة والكرامة" في أوكرانيا أو احتجاجات "يورو ميدان" (نسبة إلى ميدان الاستقلال في وسط العاصمة كييف) التي اندلعت في كانون الثاني/ يناير 2013 واستمرّت حتّى أواسط 2014، قَبل أن نشهد الهجوم الروسي عليها في 24 شباط/ فبراير 2022 والذي لم تنتهِ فصوله بعد؟ أو سلسلة الاحتجاجات والإضرابات في باكستان بين 19 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2020 و23 كانون الثاني/ يناير2021 ضدّ نظام عمران خان وحكومته، وتلك التي قامَ بها أنصار عمران خان في شباط/ فبراير الفائت احتجاجاً على ما اعتبروه تزويراً لنتائج الانتخابات؟ أو سلسلة الاحتجاجات العنيفة ضدّ السياسات الاقتصاديّة لرئيس الإكوادور غويلرمو لاسو، التي بدأت في 13 حزيران/ يونيو 2022، بسبب ارتفاع أسعار الوقود والموادّ الغذائيّة؟ أو الاحتجاجات الكولومبيّة التي بدأت في 28 نيسان/ أبريل 2021 ضدّ زيادة الضرائب وتعديل الرعاية الصحيّة الذي اقترحته حكومة رئيس كولومبيا إيفان دوكي؟ أو مشهد آلاف المُتظاهرين في أنغولا (ثاني أكبر دولة منتجة للنفط الخامّ في أفريقيا) بعد أسبوع من اندلاع اشتباكات بسبب خفْض دعْم البنزين وزيادة أسعار الوقود ومقتل خمسة أشخاص على الأقلّ؟ أو الاحتجاجات الدمويّة في كينيا ضدّ مشروع قانون جديد للضرائب (من بينها ضريبة القيمة المُضافة على الخبز بنسبة 16% وضريبة على السيّارات بنسبة 2.5%) والتي نتجت عنها أعمالُ عنف سقط جرّاءها عددٌ من القتلى وسط اقتحام مبنى البرلمان وانقطاعات في خدمات الإنترنت؟
وماذا عن الاضطرابات التي اندلعت في جنوب أفريقيا في يناير2023 احتجاجاً على أزمة الطّاقة في البلاد واستمرار الانقطاع المُبرمَج للتيّار الكهربائي، وقَبل ذلك في يوليو2021، بسبب سجْن الرئيس السابق جاكوب زوما، التي سرعان ما تحوَّلت إلى احتجاجات على اتّساع الفقر وعدم المُساواة، أو التظاهرات والاحتجاجات في العاصمة الغانيّة أكرا في سبتمبر2023 بسبب الصعوبات الاقتصاديّة، وارتفاع تكاليف المعيشة وقلّة فرص العمل في ظلّ أسوأ أزمة اقتصاديّة عرفتها هذه الدولة المُنتجة للذهب والنفط والكاكاو، منذ عقودٍ، بسبب تصاعُد الدَّين العامّ...
لعلّ من بين أكثر المشاهد تعبيراً عن ارتباط الفساد السياسي بالطبقات الحاكمة من جهة، وبالفقر واللّامساواة من جهة ثانية، ناهيكم بارتباط ذلك كلّه بالرأسماليّة العالميّة في غالبيّة دول العالَم الثالث، لعلّه مشهد يعود إلى شهر يوليو من العام 2022، والذي شاهدنا فيه مواطنين يتجوّلون في قصر رئيس سريلانكا "غوتابايا راجاباكسا" ويسبحون في مسبحه، فيما يُفرغ آخرون أدراج خزانة من محتوياتها مستولين على مقتنيات خاصّة بالرئيس ومُستخدمين حمّامه الفاخر.. كتعبيرٍ عن الحالة البائسة للسكّان والفوارق الطبقيّة الهائلة بينهم وبين الطبقة الحاكمة.
ولمّا كان البنك الدوليّ قد حذَّرَ في مارس من العام 2023 من أنّ "معدّلات النموّ الآجل للاقتصاد العالمي ستنخفض حتّى 2030 إلى أدنى مستوياتها في 30 عاماً، ما سيؤدّي إلى ظهور "حلقة مفقودة" في التنمية الإنتاجيّة"، ولمّا كان قد توقَّع أن ينخفض متوسّط نموّ النّاتج المحلّي الإجمالي العالَمي المُحتمل بين الأعوام 2022 و2030 بنحو الثلث عن المعدّل الذي كان سائداً في العقد الأوّل من هذا القرن إلى 2.2% سنويّاً، وبأنّ الانخفاض بالنسبة إلى الاقتصادات النّاشئة سيكون حادّاً بالقدر نفسه من 6% سنويّاً بين عامَيْ 2000 و2010 إلى 4% سنويّاً خلال الفترة المتبقّية من هذا العقد، لا بدّ لنا من أن نتوقّع مزيداً من الخراب لبلداننا، ومزيداً من الجشع النيوليبرالي، للتعويض عن خسارات الاقتصاد العالمي، وذلك بعكس ما طمح إليه كلّ مَن راهنَ على استخلاص العِبر من أزمة كورونا لمصلحة الإنسانيّة جمعاء. ولعلّ ما يجري في غزّة الآن منذ حوالى 10 أشهر، غزّة العائمة على مخزون غازٍ طبيعي يمتدّ إلى شواطئ لبنان وسوريا، والتي أصبحت حتّى تاريخ كتابة هذه السطور عائمة على جثث وأشلاء أكثر من 38153 شهيداً، لهو خير دليل على ما نذهب إليه.
*مؤسّسة الفكر العربي
*ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.