دراسة البيئة والحياة

أما عن المنبع الثالث فلسنا - بطبيعة الحال - نفرض على أدبائنا أن يحيطوا أنفسهم ببيئات أولئك الأدباء المقلدين، فلكل أديب بيئته وحياته الخاصة، وإنما نريد أن يلتفتوا إلى بيئتنا وحياتنا ويصورونها تصويرًا صحيحًا صادقًا، وأكبر الظن أن الأدب الحجازي في صورته الجديدة وثوبه القشيب بعد الحرب سيحقق من النظرية القائلة «أن الأدب صورة للحياة». أكثر مما حقق من قبل، وأن الأدباء سينغمسون في بيئتهم يدرسونها ويجوسون خلالها فاحصين مستلهمين متصورين حتى إذا امتلأت أذهانهم بالأفكار ونفوسهم بالإحساسات وزخرت صدورهم بالعواطف وأفعمت مخيلاتهم بالصور، برز ذلك كله على القرطاس قصصًا تصف مجتمعنا وتصور حياتنا في دقة وأمانة كما هي أو كما كانت أو كما يجب أن تكون.

الاتجاه النفساني


وإذا كان الأدب في جوهره تصويرًا ناطقًا للحياة النفسية تخاطب به النفس الإنسانية؛ فما أجدر بأدبائنا أن يدرسوا النفوس التي يصورونها والنفوس التي يخاطبونها دراسة تحليلية دقيقة، ولا يتسنى لهم ذلك إلا إذا كانوا على دراية بالشعور واللاشعور والتصور والخيال والعواطف والانفعالات والميول والوجدانات والغرائز والنزعات؛ وما إلى ذلك مما يضمه علم النفس الذي دخل فروعًا كثيرة من فروع الحياة، والذي غزا الميدان الأدبي في الشرق والغرب. وهذا الاتجاه النفساني من شأنه أن يعين أدباءنا على أداء رسالتهم في الحياة وعلى توجيه النفوس وصقلها ومعالجة نقاط الضعف في المجتمع، ومن يدري فلعلهم - حين يتجهون هذا - يكتبون لنا قصصًا نفسية مؤثرة مبنية على الدرس النفسي والتحليل السيكولوجي.

النقد الأدبي

ويجب أن يحتل النقد الأدبي مكانًا خصيبًا في ميدان النشاط الأدبي في الحجاز، وعلى أدبائنا أن يفسحوا المجال للنقد النزيه الصادق، وعلى النقاد والناشرين حماية السوق الأدبية من الأدب الرخيص فهو كالوباء يفسد القراء، وعليهم أيضًا أن يحاربوا الضعف الأدبي بمختلف مظاهره؛ كالتقليد الأعمى وفسولة الرأي، وهلهلة النسيج، وعقم الخيال، ووهن العاطفة، وكذبها وما إلى ذلك مما يهوي بالأدب إلى الحضيض.

عوامل أخرىتلك هي عوامل النهوض والإحياء التي ذكرنا في خلالها بعض مظاهر الضعف عند المنتجين، وثمت عقبات أخرى تقف في سبيل تقدم الأدب كالجو الحار المتقلب الذي لا يساعد على الإنتاج، وكالجهل الفاضح عند معظم المستهلكين وكالفلسفة العملية التي سارت على نهجها أمتنا، ويمكننا التغلب على هذه الصعاب بالصبر والجلد وانتشار الثقافة والمرونة النفسية والعقلية.

أدبنا والتصدير

وإذا أردنا أن يكون بيننا وبين الأقطار العربية تجاوب أدبي وثقافي نصدر إليها أدبنا كما نستورد منها ثقافتها وإنتاجها الروحي والفني، فعلينا أن نسلك سبيل النهضة الأدبية التي ذكرنا عواملها، وأن نجعل من أدبنا غذاء جيدًا مختلف الألوان صالحًا لنفوسنا نتذوقه فنستسيغه ونهضمه، ونمضي في هذه السبيل حتى إذا شعر أدباؤنا الشبان بأنهم قد أصبحوا مهرة في فن من الفنون التي عالجها الأدب الحجازي من قبل، أو لون من هذه الألوان الجديدة التي أشرنا إليها، وأحسن نقاد هذا الأدب بصلاح ما ينتجون للتصدير، كان من حقهم أن يجتازوا بأدبهم حدود بلادهم.

على أن لبعض أدبائنا الموهوبين وثبات أدبية مشكورة، تنم عن ملكات جيدة ومواهب حسنة يستطيعون بها أن يشتركوا في زحمة الحياة الأدبية التي تعج بتيارات قوية في مصر والشام والعراق، على شريطة أن يراعوا الجدة والقوة والاختيار وسنة التطور، فأدب المقالة، يتراجع اليوم أمام أدب القصة الذي يتقدم بخطى ثابتة في الشرق العربي، ولا غناء في مقالة لا تبنى على الأفكار الدسمة والعواطف القوية أو التحليل الدقيق، ولا رجاء في أدب المناسبات ولا فائدة في الأشعار التي يقل حفلها من الشعور والخيال، وعلى الأدباء المصدرين بعد ذلك أن يهيؤوا لأنفسهم جوًا من الدعاية مع ملاحظة أن الجودة والجاذبية الفنية خير دعاية.

1946*

* ناقد وكاتب سعودي «1920 - 2011»