يقول القائل: قبل أيام، وقفنا أمام عربة شاي بسيطة جداً في إحدى الدول العربية، مهترئة وقديمة، تعمل نيرانها بالديزل ربما أو بشيء يدوي من هذا القبيل. في الواقع جذبنا البائع كبير السن، تزهو به العربة والمكان يترنم بوجوده. بادرنا اللطف مع "العم" كما كنا نشير له بهذا الاسم الرفيع. فأخذ هذا العم يتحدث في رغوة الأحاديث التي كنا نتبادلها معه أثناء تجهيز الطلب، ثم ألقتنا الأحاديث حتى أسهب في إخبارنا عن مديره السابق بدكتوراه المحاسبة ولكنه فاشل جداً الذي يتحدث عن الرؤى، ثم أسعفه الحديث لينتقل متحدثاً عن فشل وزير إحدى الوزارات "أتحفظ بذكر اسم الوزارة" وكيف يجب حل المشكلة التي تواجه تلك الوزارة بكل بساطة!! وبنبرة صوت تقول: الموضوع لا يحتاج لكثرة تفكير يا سادة ولكن الوزارات لا تعرف الحلول.

ويكمل القائل: عندما شعرنا بتوتر من تشاؤمية النطاق؛ قدنا الحديث للمجال الكروي بعيداً عن هذه الطاقة السلبية، بما أننا سياح ولا نريد سماع تشاؤمات صباحية. فكان "العم" خبيراً بالمجال، متحدثاً عن لقطة لأفضل لاعب في العالم وكيف أضاعها وما الذي كان يجب فعله ولم يفعله ذلك اللاعب. وأخذ بكل حسرة يتحدث عن كيفية حفاظ اللاعب على طاقته وتركيزه في الكرة. وانتهت الإرشادات الكروية عندما قدم لنا الشاي، وما أدراكم ما الشاي!، الذي نلناه كجائزة بعد مرارة حديث أخفى ابتسامتنا التي خرجنا بها من الفندق صباحاً. فكان يا سادة أول لقاء لنا بأسوأ شاي في حياتنا كلها، ممزوج بنكهة أشبه بالديزل غير مطاقة، ثقيل، ويحاول السكر بوفرته تغطية كل عيب... لم أستطع تمالك نفسي، قلت: يا عم، أنت بائع شاي بسيط وتُعلم الجميع كيف يجب أن يعملوا من كبار الإداريين والناجحين من اللاعبين، وأنت في الأصل لا تجيد عملك وهو مجرد كأس شاي؟!

فتركناه خلفنا وهو يحاول الشرح بأن هذا الشاي الأصيل... وإننا جيل لا يفهم شيئاً والكثير من التمتمة. تذكرت حينها أن للأغلب رأياً فيما يعلم وفيما لا يعلم، "الكلام ببلاش"، والأغلب يستطيع إخبار الآخر ما الذي يجب فعله، والكثير يرى أن من حوله لا يعلم كيف يعمل، مدراء، زملاء، عملاء، "وفقهاء على المدرجات" حتى ساورني السؤال، كم منا بائع شآي؟.


ولا شك لدى العارف بأن آفة بائع الشاي وصمة على جبين كثير من الناس اليوم. الموظف الكسول الذي لا يُخلِص في عمله هو ذاته من يُحاضِرك عن كيف يجب أن تعمل الحكومة ويتشكّى من كسل موظفي الوزارات الاخرى ومن كسل الآخرين، بل يكره أن يعمل لدى مدير نشيط أو حتى أن يزامله رجل نشيط في عمله، في حين رغبته بوزارات تعمل كخلية النحل لخدمته. هذا الوصمة هو من يحلم بالعيش في زمن عمر بن الخطاب، في حين أنه يكره الوَرع ويريد مساحة في حريته للغناء واللهو ونحوه. نستحضر هنا قوله تعالى ( وما ظلمناهم ولكن أنفسهم كانوا يظلمون) .