قبل عامين من الآن وفي مثل هذه الأيام من بدايات سبتمبر 2022، وجه الدكتور إبراهيم الصقهان مدير فرع هيئة التراث في المنطقة الشرقية، الذي كان قد عين حديثًا آنذاك لإجراء حزمة نشاطات في مواقع الآثار المتناثرة على امتداد المنطقة، بغية المحافظة على الإرث وتنوع التراث والآثار.

وتمتلك المنطقة الشرقية كغيرها من مناطق المملكة إرثا ضخمًا تاريخيًا وحضاريًا، ومع أن هيئة التراث تعمل جاهدة للتعامل مع المواقع الأثرية بحرفية ومهنية عالية مع كل ما لدى المملكة من فرص واعدة لاستثمارها اجتماعيًا واقتصاديًا وسياحيًا وحتى ثقافيًا، إلا أن «الوطن» رصدت مواقع وأماكن تراثية ما تزال مهملة حتى بات معظمها مكبًا للنفايات، فيما تهاوى بعضها الآخر وسقط».

قيم أثرية مجهولة


ناشد مختصون في التراث وباحثون في التاريخ بسرعة معالجة المواقع الأثرية من الأيدي العابثة من جانب، ومن قسوة الزمن وتغيراته في جانب آخر. والباحث التاريخي عبد الرسول الغريافي «بعض المناطق التراثية، بل والأثرية، قد لا يعيرها البعض أدنى اهتمام، وربما يبدي كثيرون اشمئزازًا حولها بسبب الإهمال الذي حولها إلى مكبات للنفايات، وبسبب الإهمال المستمر في العناية بها، ما يهددها بالتدهور والإندثار خصوصًا أن العابثون والأطفال وحتى الشباب قد يلهون بها جهلًا بقيمتها الأثرية أو التراثية عند مرورهم بها لعدم معرفتهم بهويتها، وعدم إلمامهم أن تلك المعالم كانت فيما مضى من الأيام أعيانًا بارزة وشامخة بين الناس».

أبراج متهاوية

أكمل الغريافي «شخصيًا أستطيع أن أؤكد أن كثيرًا من تلك المعالم لا تحتاج إلى عناية كبيرة أو مكلفة، ولا بد من تدارك وضعها قبل فوات الأوان، وقبل أن يسوء حالها أكثر وتصبح في طيّ النسيان وينهي دورها كمعالم تراثية وتاريخية تعد بمثابة شواهد على أزمنة فاتت».

وأضاف «على سبيل المثال -لا الحصر- هناك برج أبو الليف (وهو برج بحري عسكري يقع في الخليج العربي جنوب خور ملك ضمن القوس البحري الممتد من الدمام حتى رأس تنورة)، هذا البرج بدأ حاله يتدهور يوما بعد يوم، وكلما مضى الوقت تناثرت حجارته التي هي على شكل مكعبات منحوتة نحتاً من حجارة الفروش البحرية في الأزمنة الغابرة، ولو كلفنا وبكل بساطة 3 عمال فقط من البنائين بالقيام بجمع تلك الحجارة الثمينة المتناثرة حول البرج، واستخدمنا في إعادة رصفها مادة إسمنتية حديثة مقاومة للمياه وأعدنا تلك الحجارة إلى أماكنها لارتفعت بقايا البرج عما هي عليه الآن ارتفاعًا يجعلها مميزة ولافتة يتعرف الناس من خلال ارتفاعها على البرج، وربما أثار ذلك أسئلتهم واستفساراتهم عنه وعن تاريخه التليد».

وواصل «بمثل هذه المجهودات البسيطة يمكن أن يستعيد البرج سيرته الأولى، ويتم جلاء هويته المجهولة، ويتعرف عليه الناس، ويبحثوا عن أصله في المراجع والمدونات التاريخية، وربما علقت على صدره لوحة تعريفية صغيرة تقدم معلومات مختصرة عنه».

أخوار متسخة

استشهد الغريافي بمثال آخر في «خور تويريت الشمالي الشهير» بقرية الأوجام، والذي يطلق عليه البعض «بحيرة» وهو خور (بحسب تعريف أهالي الخليج عامة وأهالي القطيف خاصة) والخور هو نفسه الهور، وقال «ذكرت أنه الشمالي لأن هناك خور آخر وهو خور تويريت الجنوبي. هذا الخور يغطي مساحة كبيرة جدًا مقارنة بأي مسطح مائي آخر في أنحاء المنطقة الشرقية عامة، حيث يربو عرضه عن 1 كلم، وأما طوله فأكثر من 2 كلم وقد نشأ لأن عيون قرى القطيف الغربية تصب روافدها في الغرب على عكس القرى الشرقية التي تصب في البحر شرقًا، ما جعل فائض مياه قرى القطيف الغربية تستقر فلي المنخفضات».

وأكمل «يحتاج هذا الخور عناية بسيطة يتولاها متطوعون لتنظيفه وتنظيف ضفافه ليصبح بعدها معلما سياحيًا جاذبًا، خصوصًا إذا ما رصفت جوانبه (بالإنترلوك) وثبتت بعض الكراسي الإسمنتية وبعض المظلات وغيرها حوله».

وبين أن هناك معالم أخرى تحتاج عناية بسيطة كآثار بعض عيون السيح القديمة، وبعض الحمامات والقلاع القديمة في القطيف والأحساء، ومنها قلعة حمام تاروت وقلعة الفيحاني بدارين، وما تبقى من بيوت قلعة القطيف السكنية وبعض القصور المتناثرة هناك.

مبانٍ أصيلة

في ذات السياق، قال إسماعيل هجلس الباحث في العمارة التقليدية والتاريخية «كثير من القرى التراثية في عموم المملكة ما تزال تحافظ على نسيجها العمراني الأصيل، لكننا نخشى تهالكها وسقوطها وصعوبة إعادة إحيائها بعد ذلك، وبعضها ليست بحاجة للتنظيف وإعادة الترميم بقدر ما هي بحاجة إلى مشروع استثماري كبير لإعادة تأهيلها وتمكينها لتكون قائمة وآمنة للارتياد».

وأضاف «بادرنا نحن المهتمون بالتراث وبجهود شخصية لإصلاح ما يمكن إصلاحه ووصلنا في مرحلة من المراحل إلى معالجة أحد الأسقف، لكن الأمر مكلف جدًا ويحتاج إلى الوقت وإلى العمالة الفنية المتخصصة ومواد البناء الأصيلة».

معالم وآبار

سبق لـ«لوطن» أن وثقت وجود 100 بئر في منطقة جازان لم يصمد منها سوى بئرين، أحدهما تحول إلى مكب نفايات والآخر لمجلس تجمع أهالي البلدة، علمًا أن جازان تمتلك إرثا هائلًا من المعالم التاريخية القديمة.

وأبان مختصون أن المجتمع السعودي يجهل كثيرًا من معالمه التاريخية ومنها هذه الآبار لغياب التوثيق، وتقادم عمرها الافتراضي ما أدى للجهل بها ومن ثم تجاهلها.

وكانت هيئة التراث قد أعلنت عن إطلاق منصة «بناء» الإلكترونية ضمن مبادرات المشاركة المجتمعية في موقع وزارة الثقافة للمساندة في مشاريع ترميم التراث العمراني وذلك ضمن مسار يرصد بيانات المتخصصين والحرفيين والمهنيين من الممارسين في البناء التقليدي ويرتبط بالسجلات الثقافية ذات العلاقة بهدف تطوير الخبرات الفنية في مجال ترميم مباني التراث العمراني وتعزيز مفهوم الجودة في أعمال الترميم.

وحسب ما نشرته الهيئة فإن عدد المواقع الاثرية المسجلة في السجل الوطني للآثار في عموم المملكة بلغ 8847 موقعًا أثريًا.