لم يكفَّ الجدل بعد أن غرد خامنئي في حسابه الرَّسمي على منصَّة (إكس) عن جبهة حسينية ضد أخرى يزيدية، في استحضار لتاريخ بعيد عن فارس القديمة التي استحضر ذكرها الخميني في كتابه (كشف الأسرار)، فتحدث خامنئي عن تراث حدث في العراق حيث حادثة كربلاء الشهيرة، وهي البلد التي دخلت إيران «الثورة الإسلامية» حربًا طاحنة معها لثماني سنوات، واستعانت بالسِّلاح من إسرائيل فيما عرف بإيران كونترا (1985).

وصل الانقسام إلى جماعة الإخوان المسلمين، فالسُّوريون منهم أدانوا تلك التصريحات واعتبروها حلقة من سلسلة الطائفية التي لعبت عليها إيران واكتوى العراق وسوريا بنيرانها، لكنَّ إخوانًا آخرين أطلقوا حملة تأويلية لتلك العبارات التي قالها خامنئي بأنها ليست طائفية إذ سبق أن قالها الخميني في شاه إيران، متغافلين عن كون الأيدلوجيا الخمينية هي معتقد سياسي في المقام الأول، وليست محضَ مذهب ديني، فخامنئي ردد العبارات المشبعة بمثل هذه التشبيهات في خصومه السِّياسيين، كوصف المعارضة بطلحة والزبير، على اعتبار أنَّ النظام الإيراني هو الفيصل والحكَم في توزيع الشهادات على الناس بالجنَّة والنار، وأنَّ سلطته لا زمنية بل تمتد إلى التاريخ وما بعد الموت!

هذا الخطاب الذي ينتهجه خامنئي يقضم حصة الدولة ومبدأ المواطنة، فهو أقرب إلى دعاية الميليشيا وهي المعفية من أسئلة التنمية والاستقرار والقانون وغيرها مما يختلج في صدور رجال الدولة، لصالح إطلاق الصَّيحات والزَّفرات والوعد والوعيد الذي لا تقوى إيران (الدولة) على فعل شيء منه، لتبث خطابًا هو الأقرب إلى أمزجة الميليشيات في المنطقة، حيث يستمع إلى هذا الخطاب من لا يعني لهم القانون والوحدة السياسية والمصالح الحيوية للبلاد شيئًا، إلى الميليشيات الموزعة في المنطقة العربية، وترى فيه فرصة لاقتناص الزعامة، وتحقيق النفوذ.


هذا الخطاب بات واضحًا لكل ذي عينين أنه يلغي مفاهيم المواطنة، وقد صرَّح بعض من يقيم في العراق ممن ولاؤهم لإيران بأنَّ الأوامر الإيرانية أعلى من أي مرجعية وطنية في العراق، وهكذا صار واضحًا حتى لدى جمهور عريض من الطائفة الشيعية بأنَّ إيران لا تخدم الطائفة بل تستخدمها، فما الذي يحققه الشيعي في مختلف الدول التي يقيم فيها، وإيران بجشعها السِّياسي لا ترى فيه إلا رصاصة حيَّة توجهها لخصومها، وقد بلغ النفوذ الإيراني في العراق مبلغًا كبيرًا، ومع ذلك لم يكن مانعًا من التسبب بأزمة في مياه العراق في الاستحواذ على مياه تسقي العراقيين، وعند السؤال عن حال التنمية والأمن في ظل النفوذ الإيراني لا يعود السَّائل بحاجة إلى جواب أمام فجاجة الأمر المشاهد.

إنَّ نزع فكرة المواطنة والاندماج في المجتمعات هو ما عملت عليه إيران عبر التقاطع مع كل الدعوات المماثلة، فخامنئي قارئ نهِم لسيد قطب، ومادح مثنٍ عليه، وهو مترجم لكتابه (في ظلال القرآن) أشهر من لا يعبأ بالأوطان والحدود السياسية، ولذا فإنَّ الخطاب الإيراني يعكس أزمة داخل الدولة الإيرانية، بين مصالحها الداخلية التي تتطلب الاستقرار ورفع العقوبات، وبين الحالة المهووسة برفض الحدود السياسية، والانهماك بإشعال الثورات، والتصدُّر على دماء الأبرياء، وهذه الأفكار نهايتها البعيدة تدمير منطق الدولة، وفكرة المجتمع الواحد، بما لا يعود على المواطن الإيراني بأدنى مصلحة، ولا يطرب له سوى المتحلقين حول خامنئي لأسباب الانتفاع بامتياز فوق غيرهم من الناس.

إنَّ الأزمة التي يصدِّرها النظام الإيراني داخلية عبر تدمير منطق الدولة، وخارجية عبر تدمير منطق المواطنة في مختلف الدول التي أثر بها، ولا يعرف هذا التأثير المدمِّر فوارق طائفية أو وطنية، فمن يمضي في المشروع الإيراني فقد حكم على نفسه وبلده، مهما كانت طائفته بالتبعية وخوض الحروب بالوكالة عن طهران التي تنتهي عادة بما يشبه كارثة غزة، حينها ينسحب النظام الإيراني ليحدِّثهم طويلًا عن جبهة ضدَّ يزيد!