على كلٍ، نكمل قصة الجماعة الإرهابية في العراق، لتقييم البيئة التي خرج منها «الراشد»، ففي 15 أكتوبر 1960، نشر (الحزب الإسلامي العراقي) في جريدة الفيحاء للشيعي النجفي «كاظم الساعدي»، (مذكرة) كتبها «عبد الكريم زيدان»، وجهت انتقادًا حادًا ولاذعًا «لعبد الكريم قاسم» وللشيوعيين، ولم ينتبه للبيان إلا بعد انتشاره بين الناس مما شكَّل صدمة وهزة عنيفة للحكومة، فتم القبض على أعضاء قيادة الحزب، ولم يكن من ضمنهم «زيدان»، فمكثوا في السجن خمسة أشهر، الذي كان سجنًا ليس كالمعتاد، فقد كانت الزيارات مفتوحة ليل نهار، وكان الطعام يأتيهم من المنازل في الوجبات الثلاث، بل وصل الأمر أن يخرج السجناء إلى الحلاقين والمطاعم القريبة من السجون، وقبل الإفراج عنهم في مارس 1961 قابلوا «عبد الكريم قاسم»، وأوضح لهم أنه لم يأمر باعتقالهم، وطلب منهم حل الحزب، ثم صدر أمر بتجميد الحزب ومنعه من ممارسة نشاطه، وهكذا انتهت التجربة الأولى (للحزب الإسلامي والعراقي)، وكان من أبرز المعوقات التي واجهها ازدواجية القيادة، بين المراقب العام «عبد الكريم زيدان»، وبين رئيس الحزب «نعمان السامرائي»، وضعف الجانب المالي، ناهيك عن تضييق الحكومة العراقية، وعلى الرغم من وجود الحزب في فترته القصيرة، إلا إن ذلك لم يثنِ التنظيم عن الاستمرار بالعمل، فقد نشط في إصدار المجلات والصحف والنشرات السرية وغير السرية، واستمر في الاحتفال بالمناسبات الدينية، وأسس بعض الحركات العمالية لاختراق النقابات، كما قاموا بمظاهرة كبيرة في سنة 1966 احتجاجًا على إعدام سيد قطب ورفاقه.
في سنة 1965 حصلت خلافات داخل التنظيم الإخواني العراقي قادها «طه جابر العلواني» و«فليح السامرائي» و«محمد فرج الجاسم»، هذه الجبهة كانت تعتقد أن «زيدان» معوق كبير للعمل السياسي الثوري الإسلامي، وغير متفاعل معه بالشكل المطلوب، وأنه لا بد من إحداث انقلاب عسكري أو التنسيق للمشاركة في انقلاب على الحكومة العراقية، إلا إن «زيدان» ومعه القيادة الإخوانية رفضوا ذلك، حيث رأوا أن تجربة الجماعة الأم في مصر مع انقلاب (23 يوليو) رادعًا عن التفكير بمثل هذا الأمر، وأن الصواب هو التركيز على التربية والتثقيف، وزيادة الوعي في الأمة الإسلامية، وهنا من المهم تأمل إحدى أهم إستراتيجيات الجماعة الإرهابية الأصيلة التي لا يطالها الإندراس، ألا وهي التربية الطويلة الممتدة لعدة أجيال، لخلق حالة تيارية عامة في المجتمع المستهدف، ولو لم يؤمن هذا التيار بتفاصيل منهج الجماعة الإرهابية، وإنما يكفي منه الإيمان بالعموميات فحسب، ولولا سوء النوايا لقيادات جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية في مختلف الأقطار والأزمان، ثم سوء التقدير والتخطيط، ثم جهود المخلصين لأوطان ومجتمعاتهم، لسرقت الأمة العربية من ذاتها ومن محيطها الإقليمي والدولي، وهنا أيضًا ملحظ لطيف نرى من خلاله أي فكر كان يدير الجماعة وقتما كان «الراشد» عضوًا عاملًا صغيرًا فيها، وكذلك نرى طبيعة الصراعات التي شكلت عقليته التنظيمية.
على كلٍ، الثلاثي «محمد فرج الجاسم»، و«فليح السامرائي»، و«طه جابر العلواني»، لم يقفوا مكتوفي الأيدي أمام رفض التنظيم والمراقب العام، بل فتحوا خطوطًا مع ضباط وسياسيين من غير الإخوان المسلمين، لعمل انقلاب على حكم الرئيس «عبد الرحمن عارف» وقتها.
وهنا وقفت الجماعة على مفترق طرق، أحدها طريق المراقب العام والقيادة، الذي يرى أن الوقت لم يحن بعد، وأن هناك ضرورة للتربية والاستعداد، والطريق الآخر طريق المجموعة التي ترى ضرورة سرعة قلب نظام الحكم في العراق.
اجتمع الثلاثي في جامع «الحاجة نسيبة الباجه جي»، وكان إمامه وخطيبه «طه العلواني»، مع ثلة تجاوزت الثلاثين نفرًا من قدامى الجماعة وشبابها، وقرروا الانشقاق الناعم على «زيدان» من غير إعلان ولا إثارة بلبلة ولا انتخاب مسؤول، وأصدروا مجلة سرية باسم (الإخوان المسلمين)، صدر منها عددان، نشر فيهما مقالات في تحليل حركة الإخوان في العراق، ثم كتبوا بيانًا لتوضيح عمل الجماعة الراهن في العراق، ويقال إن «طه جابر العلواني» أضاف فيه سطرين استفزت قيادة الجماعة بشدة، مما حدا «بزيدان» وأعضاء القيادة على إصدار بيان بفصل هؤلاء، واتهامهم بشق صفوف الجماعة، كما صدرت فتوى بمقاطعتهم من جميع الإخوان في العراق، وكان هذا القرار بإجماع أعضاء قيادة الإخوان وقتها.
المجموعة رأت بعد دراسة الوضع أن يطلب من «الصواف» الموجود في دمشق وقتها، العودة إلى بغداد وقيادة الجماعة خصوصًا وهو لا يزال يتمتع بتوافق وإجماع كافة الإخوان في العراق، ولم تكن له خصومة مع «عبدالرحمن عارف»، فانتدب لإقناعه «عبد المجيد ذهيبة»، فأبدى «الصواف» استعداده التام للعودة ما دامت الرغبة بعودته موجودة.
وبينما كان «الصواف» يجهز نفسه للعودة، قامت ثورة 17 يوليو 1968، التي أسفرت عن مجيء حزب البعث للحكم، مما قطع كل الآمال بعودة «الصواف» إلى العراق حتى وفاته، وما حدث بعد انقلاب البعث، هو المدخل للحديث المباشر عن انطلاقة «محمد أحمد الراشد» الذي تجاوز يومها الثلاثين عامًا من عمره بتسعة أيام فقط.