[ليس معقولاً، لا نقلاً، ولا عقلاً، إطلاق لفظ «السنة» على كل شيء لم يذكر فيه نص صريح من القرآن أو السنة أو سار عليه إجماع الأمة كلها، في مشارق الأرض ومغاربها].

ومصيبة كبرى أن تستمر التهم المعلبة، كوهابي وأحد النابتة، وضال، ومنحرف، ومبتدع وما هو أشنع من ذلك، على كل من ينادي بالتزام سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعدم الزيادة عليها، وعدم التفريط فيها.

[كل الناس سمعوا حديث: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، فهو رد»، وفي رواية: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو رد»]، والناصحون العقلاء من ذوي العلم، فهموه على أنه من أحدث في ديننا، ومن عمل عملاً ليس من ديننا الذي جئنا به من عند ربنا.


فليس من البدعة وفق نص الحديث المتقدم كل عمل أو قول لا يضاف إلى الدين، بل يضاف إلى الحياة الدنيا وزينتها [ومن ذلك الاشتغال بعلم الذكاء الاصطناعي، والأمن السيبراني، وإنشاء المدن الرياضية، وبناء المسارح والملاعب وناطحات السحاب، والتوسع في الملبس والمركوب والمأكول والمفروشات].

وكلنا وليس [أغلبنا، مر عليهم حديث «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»] نعم، مر هذا الحديث علينا كلنا، والناصحون العقلاء من ذوي العلم، فهموه على أنه من أحدث في عهد الإسلام أمراً حسناً، كمن بنى مسجداً، أو أقام مدرسة لتعليم الناس أمر دينهم، أو جمع المسلمين على صلاة فريضة كانوا قد تركوا الاجتماع عليها، أو جمعهم على نافلة كانت السنة أن تصلى جماعة، أو تصدق بصدقة فتتابع الناس بعده على مثلها، أو أحدث نظاماً يسهل للناس حياتهم، كما في تنظيم القضاء والمرور والجوازات، فإن من فعل ذلك كان له أجر هذه السنة وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.

وقد وضح سبب ورود هذا الحديث مراد رسول الله منه كما رواه جرير بن عبد الله البجلي قال (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة، مجتابي النمار أو العباء، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالًا فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة} إلى آخر الآية {إن الله كان عليكم رقيبًا} [النساء: 1]، والآية التي في الحشر: {اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله} [الحشر: 18]، تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة، قال: فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس، حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنةً حسنةً، فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنةً سيئةً، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء).

فها هو الأنصاري قد تصدق في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه، وعده رسول الله ﷺ ممن سن سنة حسنة.

ولذلك ليس فهم الحديث بأنه من أحيا سنة، فهماً متعسفاً، بل فهم صحيح موافق لسبب ورود الحديث، ولعل المتعسف هو من يوسعه حتى يجعل معناه: من عمل ما لم يعمله رسول الله أو أصحابه مما يزعم كونه عبادة، فقد سن سنة حسنة.

[مؤلم جداً، وبمختلف التصورات] أن يرى البعض كون من يأتي في الدين بما لم يأمر به الرسول ﷺ ولم يكن عليه عمل الصحابة ولا التابعين عاملاً بالسنة، وكيف يكون احتجاج هؤلاء بفعل عمر بن الخطاب حين جمع الناس على التراويح خلف إمام واحد، كيف يكون ذلك وهو يعلم أن عمر، رضي الله عنه، صحابي، وقد قال ﷺ «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي» كما يعلم أن الرسول صلاها جماعة، وإنما ترك الصلاة بها خشية أن تفرض، وأن الصحابة وهو في الحياة، كانوا يصلونها جماعات، وكذلك فعلهم بعد مماته، فكيف له أن يقيس عليها بدعةً لم تحدث إلا بعد الدولة العبيدية وكان ذلك من آثارها.

إن إطلاق حكم الابتداع في عمل من ليس تعبدياً وإنما هو من أعمال الدنيا التي وسع الله علينا بها ضيق أفق وفهم معكوس للدين الذي جاء توسعة على العالمين، كما أن الخلط بين ما عمل للدنيا وما عمل للدين تخليط وخبط وقصور في الفهم، والحق التفريق بين الأمرين، واعتبار ترك رسول الله أمراً يتعلق بذاته أو يتعلق بدين ربه دليلاً وحجة قطعية على المنع للأحاديث المتقدمة.

ثم إن جمال التنوع في المذاهب يأتي في اختلاف المجتهدين في فهم معقول، منضبط بقواعد أصول الفقه التي أسسها العلماء الأقدمون لنص من النصوص، أما فتح باب الاختلاف على مصراعيه فيحيل الدين القويم إلى حفلات رقص في المساجد وما لا يخفى على شريف علم القراء من ترهات وخرافات تقام باسم الدين.