الأدب الحي

هو الذي يتخطى الزمان والمكان فيخلد في الصحائف والصدور، ويعيش في أفواه الناس، ويعبر القفار والبحار والهواء فإذا هو في الشرق إن ولد في الغرب، وإذا هو في الغرب إن ظهر في الشرق، يملي جمالًا ويذيع رأيًا ويوجه فئة ويقيم أمة ويقعد أخرى. ويظل المتأدبون على مر الأجيال عاكفين عليه يدرسونه وينقدونه ويستمتعون به ويستلهمونه ويكتنهون أسراره ويقلدونه عن وعي وعن غير وعي، لأنه يحمل في طياته عناصر الخلود كلها أو جلها من قوة الشخصية، وسمته الحيوية، ونزعة الابتكار، وعمق الفكرة، وإشراق الخيال، وصدق العاطفة، وروعة الأسلوب.

أدبنا وضعفه


وإذا نظرنا إلى الأدب الحجازي في العهد الحاضر، ألفيناه - في جملته لا في تفصيله - أدبًا لا يقوى على تجاوز حدود البلاد والتحليق في أجواء بعيدة، بل إن بعض ألوانه يولد هزيلًا مهيض الجناح لا تكاد تسمعه أو تقرؤه حتى تراه وهو يحتضر، وربما خيل إليك أنك تسمع حشرجة صوته وهو يلفظ النفس الأخير حين ينفض الحفل أو تطوى الصحيفة فتشفق على هذا اللون أن يموت، وتحنق على ذاك إن كان قد ولد فتشيعه غير مأسوف عليه. والسبب في هذا واضح بيِّن، فأدبنا لا يحمل في ثناياه عناصر الحياة والبقاء.

عوامل النهوض

وما دام أدباؤنا قد أعجبوا بفحول الكتاب والشعراء في المهجر والشرق العربي وجروا على سننهم في إنتاجهم الأدبي، فعليهم إذا ما راموا النهوض والذيوع والتفوق والخلود أن يلتمسوا تلك العناصر. ولا يتأتى لهم ذلك إلا إذا اتصلوا اتصالًا وثيقًا بتلك المنابع الأصلية التي استقى منها أولئك الأدباء أدبهم. وأول هذه المنابع منهل الثقافة العربية الإسلامية والأدب العربي الجيد في مختلف العصور. وثانيها: معين الثقافة الغربية والأدب الأجنبي وثالثها ما تقلبوا فيه من بيئات وحيوات.

المنبع العربي

أما عن المنبع الأول فقد استقى منه أدباؤنا شيئًا وعليهم أن يستقوا منه أشياء وأن يستكملوا عدتهم من علوم اللغة والآلة والثقافة العامة، وأن يعكسوا على مرايا نفوسهم ما في القرآن الكريم والحديث الشريف من فكر وخلق وجمال أدبي وتصوير فني، وأن تكون دراستهم للأدب والتاريخ دراسة نقد وتصور وحياة واستلهام حتى يصبح في إمكانهم أن يبرزوا لنا الأبطال الإسلاميين وأمجادهم ومغامراتهم شخوصًا تتحرك وتضطرب بالحياة في روايات تاريخية جميلة.

المنبع الغربي

وأما عن المنبع الثاني فلم تكن لهم به صلة إلا عن طريق غير مباشر فيما تأثر به أدباء العرب المحدثون الذين يجيدون غير العربية لغة أو لغتين أجنبيتين، وفيما حظيت به المكتبة العربية مما ترجم من روائع الغرب. وكل ما قام به أدباؤنا من مجهود في سبيل الاتصال بهذا المنبع الغربي، أن رفع بعضهم عقيرته، ينادي بوجوب تعلم اللغات الأجنبية ولا سيما اللغة الإنجليزية. كان ذلك منذ نحو عشرين عامًا، وأنك لتعجب أن شبانًا ممن ولدوا قبيل هذا التاريخ أو بعده بقليل قد شدوا من اللغة الإنجليزية شيئًا؛ وهم يمضون في سبيلهم قدمًا بخطى ثابتة. وكأني بالزمن قد دار دورته فإذا نحن نستمتع بما ينقلون إلينا من غرر الغرب وبما يضيفون لأدبنا من ألوان جديدة. وإنا لنرجو أن يحاول كهول الأدب وشبانهم تعلم بعض اللغات الأجنبية حتى يتاح لهم الاتصال المباشر بالثقافة الغربية والأدب الغربي، ففي ذلك فائدة لهم وللأدب في الحجاز بما يحصلون من معارف وما يتزودون به من أخيلة وصور جديدة وألوان ونوازع واتجاهات.

1946*

* ناقد وكاتب سعودي «1920 - 2011»