أول ما يعجبنا من براعة ابن حزم في رسالة (طوق الحمامة)، كونه عني عناية دقيقة بتبويبها على نحو من التناسق والتكامل يطبعها بطابع التأليف العلمي المنهجي. ويكفي للتدليل على ذلك أن نستعرض هذه الأبواب التي اشتملت عليها الرسالة، ونرى كيف رتبها ترتيبًا منطقيًا يوحي بأن كل باب منها أوجد في مكانه الطبيعي من حيث علاقته بسابقه وبلاحقه.

فقد قسمها على ثلاثين بابًا عشرة منها في أصول الحب، نجد فيها حديثًا فلسفيًا عن ماهية الحب وحقيقته في رأي المؤلف، وأبوابًا عن علامات الحب بنحو من التفصيل الدقيق، وعن أنواع المحبين وأسباب حبهم وأساليبهم في العلاقة مع المحبوب.. واثنا عشر منها في أعراض الحب وصفاته المحمودة والمذمومة.. وستة أبواب منها في الآفات التي تدخل بين الحبيبين فتنغص حبهما، كالعاذل، والرقيب، والواشي، والهجر، والبين، والسلو (مرتبة هكذا).. ويختتم الرسالة ببابين: باب الكلام في قبح المعصية، وباب في فضل التعفف.. وكأنه يقصد بهذا الختام أن يخفف من أثر رد الفعل الانتقادي الذي كان يعلم أنه لا بد سيحدث عند أوساط المحافظين المتزمتين، لإمعانه في معالجة موضوع الحب بمثل تلك العناية والدقة والصراحة البالغة أقصى حدودها.. ولقد أشار هو صراحة، إلى رد الفعل المنتظر هذا، في قوله: وأنا أعلم أنه سينكر علي بعض المتعصبين على تأليفي لمثل هذا ويقول: إنه خالف طريقته، وتجافى عن وجهته. وما أحل لأحد أن يظن في غير ما قصدته.

ومن مظاهر المنهجية عند المؤلف أنك تراه واعيًا كل الوعي تفاصيل طريقته - في التأليف والتبويب -، فلا يغفل أن يدلل على هذه الطريقة في ترتيب الأبواب: (فجعلناها - أي الأبواب - على مباديها إلى منتهاها واستحقاقها في التقدم والدرجات والوجود، ومن أول مراتبها إلى آخرها، وجعلنا الضد إلى جنب ضده، فاختلف المساق في أبواب يسيرة، والله المستعان).


( طوق الحمامة) عمل أدبي أصيل، نتحدث عنه بوصفه من أدب الحب في تراثنا، فما بالنا نسأل هنا إذن هل هو أدب أم فلسفة، أم علم؟

الواقع أن السؤال وارد، لأنَّ ابن حزم بحكم كونه عالمًا ومفكرًا مارس الفلسفة وتأثر تفكيره وجدله بفلسفة اليونان وفلسفة أرسطو بخاصة، وبحكم كونه صاحب مذهب فقهي جديد في الأندلس يعارض المذهب الفقهي السائد فيها، ويتصدى للجدل المتواصل مع خصومه بالوسائل العلمية: الإسلامية والمنطقية والعقلية - بحكم ذلك كله -، لم يستطع أن يتخلص من هذه التأثيرات وهو يكتب هذه الرسالة الأدبية، على الرغم من طابعها الوجداني بالأساس، وعلى الرغم من أنه كان، وهو يكتبها، إنما يعيش في عالمه العاطفي العزيز على قلبه، مستعيدًا ذكريات صباه وشبابه أيام كان ينعم بأرفة العيش وأورف ظلال الأمن والطمأنينة والجاه والرياسة أيام كان أبوه وزيرًا للمنصور بن أبي عامر، وكانت قصور أهله في الجانب الغربي والجانب الشرقي من قرطبة تزهى بأمجادها وتتوهج بمتارفها ونعمائها من كل لون بهيج.

لقد كتب طوق الحمامة وهو ما بين الخامسة والثلاثين والأربعين من حياته، أي في حين هو يكاد يشرف على الكهولة، ويقيم في مدينة شاطبة من مدن إمارة بلنسية إحدى الأقاليم الشرقية الأندلسية، وكان ذلك عهدًا من حياته يحمل فيه هموم التشريد ثاني مرة عن أهله ودياره في قرطبة، وينوء بذكريات المحن المتعاقبة عليه منذ زوال دولة العامريين عن قرطبة وجلاء أهله عنها مرغمين بعد خراب دورهم وذهاب نعمتهم وأخذهم بجرائر العهد السياسي الذي كانوا من أنصاره، وبعد أن لقي هو ذاته الفشل مرارًا في المعترك السياسي الذي دخله انتصارًا للأمويين، وبعد أن قاسى محنة السجن كذلك في عهد المستكفي محمد بن عبدالرحمن الناصري، أي في عهد أحد الأمويين أنفسهم الذين كان ينتصر لهم ويأمل، بل ويعمل، لأن يعود إليهم سلطان الأندلس بأسره.

في ذلك الوقت وفي تلك الحال كتب ابن حزم رسالته الأدبية «طوق الحمامة».. أي أنه كتبها في مناخ من التوتر النفسي كان يعتصر قلبه اعتصارًا. ويهز ذكريات عهده الأول أيام هو ناعم البال في قصور أبيه على جانبي قرطبة الزاهرة، في الشباب الباكر من عمره.. وكانت ذكريات عهده السعيد ذاك حافلة بصنوف شتى من التجارب الذاتية، وبأنواع من العلاقات البشرية خبرها في حياة القصور، ثم في حياة الأوساط السياسية والاجتماعية والثقافية العليا من مجتمع عصره.

في هذا المناخ النفسي المتوتر بالانفعالات العميقة، كتب هذه الرسالة، فهو إذن كان بين محنة التشرد والتغرب وخيبة الآمال، إلى جانب محنة الخصومات الفكرية العنيفة تتناوشه من كل ناحية، ثم محنة التذكر تبعث في نفسه صور دنياوات ذهبت نضارتها دون رجعة، فتنبعث معها عاطفتان متناقضتان يتقلب بينهما على رغمه: عاطفة الحنان نحو الماضي والاستمتاع الروحي بالرؤى الشاردة من أمامه، وعاطفة الألم مما بين حاضره وماضيه من مهاوٍ سحيقة.

1980*

* باحث وأكاديمي لبناني «1910 - 1987» .