لو كان من بيانٍ يُعرِب عن حكاية الراحل جورج قرم لوجدتني بإزاء فيلسوفٍ تآلفت فيه دربتان مُفارقتان: دربة التنظير للما بعد، أو ما يُجاوِز اللّحظات المكتظَّة بمعاثر الإيديولوجيا وانفعالاته، ودربة الإنجاز النّافع أنّى كان متواضعا، أو بدا شأنه في الأعين قليلا، فالأعمال النافعة هي للاعتبار، ولو كان بها خصاصة وقلَّة.

ذلك سمةُ جورج قرم منذ نشأته الأولى حتّى غيابه (1940 – 2024).. زاهدا حتّى الثراء بفوائض المعنى. جَمَعَ شملَ الدربتَيْن من دون تفاوت في التأدية أو خَلَلٍ في أخلاق العمل. خَبِرتُهُ قارئا وسامعا وشريكا في غير مجلس ومقام، وفي دربة الإنجاز والعمل. عرفْتُه مُقبلا على مقتضاها إقبال المُعتني إلى أقصى حدود الاعتناء والإتقان، والذين عرفوه في هذه وتلك تحيّروا فيه حتّى قالوا: «كيف للرجل أن يجمع النقائض على هذا النحو من اليُسر وحسن التدبير.. بين التنظير لإحياءٍ حضاريّ طال انسداده، وبين انهمامه بما لا يتناهى من تفاصيل الحياة المهنيّة وجزئيّاتها؟!».

وأنتَ تتأوَّل جورج قرم في كينونيّته المُفارِقة ستَعلم أنّكَ أمام ظاهرة تُنظِّرُ وتُنجِز في الآن عيْنه، وذاك لا يفلح به إلّا الأقلّون ممَّن كان لهم حظّ الجمْع بين الفكر المتأمِّل والعمل المؤيَّد بالأخلاق. اختبارات الحداثة الغربيّة


في الكلام على منهجيّة التفكير بأعمال جورج قرم ما يحملنا على القول إنّ كلّ مقروءٍ كان عنده يستحثّ على السؤال، ثمّ ليرسم بسؤاله أُفقا لجواب غايته أن يتّخذ منزلا له في مشاغل الفكر المتحرّر من كلّ ريب. ففي هذا المُنفسح تروح تتشكَّل بنية التفكير، وتُعتَلنُ ماهيّة المفكّر وهويّته. ومتى أحرز المقروء هذه الخصائص صار حقلا للنظر والتبصُّر والتساؤل. من أجل ذلك، لا يعود تنسيب التنظير إلى أعمال جورج قرم مجرّد إسقاطٍ عارض، بل إعرابٌ عمّا أفضت إليه طرائق تفكيره حيال ماهيّته الحضاريّة وحيال الغرب الحضاري في الآن عيْنه. وما كنتُ لآخذ بهذا التوصيف لولا أنّ سؤال التنظير هو أحد أظهر البناءات المشهودة لمنظومته المعرفيّة.

مَن قَرَأَ جورج قرم في ما كتبه بغَير لغة العرب سوف يتبيَّن له مدى خبرته بماهيّة التجربة الحضاريّة الغربيّة وآليّات نشوئها وتطوّرها. وسنلاحظ كيف أنّه - وهو يستكشف آفاق الغرب وإستراتيجيّاته المعرفيّة والسياسيّة والحضاريّة – أصغى إصغاءَ المتنبِّه الواعي إلى خطبتَيْن حضاريّتَيْن متوازيتَيْن ومتضادّتَيْن في آن: خطبة العرب «المهجوسة» بأطروحة التأخُّر والتبعيّة، وخطبة الغرب المكتظَّة بخُيلاء الغلبة والاستعلاء.

أكبَّ الرجل على استقراء الخطبتَيْن بعنايةٍ من أجل أن يقف على ما يُختزن فيهما ممّا يؤمّل أن يُمهِّد لنظريّةِ معرفة تعتني بلقاء الحضارات على نصاب النديِّة والتكافؤ. وأميل إلى القول إنّه لمّا كتبَ على نفسه متاخمة الغرب، انطلاقا من خصوصيّته العربيّة الواعية ومسيحيّته المشرقيّة الرضيّة، كان يُدرك أنّ الحداثةَ المتأمَّلة إنّما هي موقفٌ وفعلٌ في التاريخ من قَبل أن تكون بِنيانا حضاريّا ناجزا. على هذا الأصل سيمضي إلى نقدِ الغرب فيما اقترفه من عيوبٍ أفضت، ولمّا تَزَل، إلى انفجار المشرق العربي. طَفَقَ يكتب بلسان الغرب من أجل أن يناظره بلسانه، وأن يُفصح عمّا في لسان العرب من معارف حول الغرب لا يدركها الغرب نفسه عن نفسه. وعليه فما كان مراده ممّا ذهب إليه إلّا لموجباتٍ ثلاثة: أ- ليفيد من اختبارات الحداثة الغربيّة ومعارفها، ب- ليُعاين ما استَتر منها من مَعاثر، ج- ليَنظر في أحوالها بعدما آل أمرُها إلى كولونياليّةٍ ضارية لا تبقي ولا تذر.

على خطّ تسييل النقد

ولأنّه خَبِرَ الغرب من داخل، فقد حقَّت عليه صفة «المستغرب» الساعي إلى فقه حضارته، وفهمها على ما هي عليه من سجايا. في رحلته الاستغرابيّة سيمضي جورج قرم إلى معاينة الحال الحداثيّة الغربيّة بالدرس والمعاينة والنقد، وما هذا إلّا ليقينٍ لديه أنّ مقتضى وعي الذات مشروطٌ أمرُه بالتعرُّف إلى غيريّةٍ حضاريّةٍ باتت سارية بين ظهراني أهله. ولو كان لنا من دراسة متأنِّية لأعماله النقديّة، فسنلقاه جادّا مجتهدا من أجل أن يقف على مكنونة حداثة الغرب ومعارفها. وعلى هذا الفهم الأوّلي قَصَد جورج قرم إلى معاينة ما ظَهر من أفعالها وما استَتر من جناياتها. لذا، فإنّ أكثر ما تناهى إلينا من مجهوداته التنظيريّة كان استقراء الأصول الأنطولوجيّة التي منها نشأت ثقافة الغرب عن نفسه، وعلى أساسها تشكّلت نظرته للغَير.

كانت المهمّة بالنسبة إليه شاقّة، ولقد جهر بالأمر غير مرّة حيث جمعتْنا مشاغل الفكر. لكنّ إرادة التعرُّف عنده لم تثنِهِ عن المواصلة. هو على يقين من أنّ كلّ تعرُّف إلى أمرٍ بتمامه مقتضاه الصبر والقراءة المتأنّية. ذلك أنّ المرء - كما يقول أبو حامد الغزالي- لا يفلح بالوقوف على فساد أو صحّة عِلم من العلوم ما لم يقف على منتهى ذلك العِلم.

منذ البدايات وَجَدَ جورج قرم في حداثة الغرب مآخذَ شتّى. كان قَدَرُه - وهو بعد في مستهلّ العمر- أن يَرقب أوّل صدمة رآها بأمّ العَيْن خلال العدوان الثلاثي على مصر لمّا أَلقت الطائراتُ الفرنسيّة قنابلها في قلب القاهرة. لم يكُن الأمر حدثا عاديّا بالنسبة إلى الفتى الذي نشأ في مدارس الآباء اليسوعيّين، ونما وعيُه على مبادئ الثورة الفرنسيّة الكبرى ومحاسن أنوارها.

لقد كان من بين الندرة من المفكّرين في عالَمنا العربي المعاصر حين سعى إلى ترتيب منظومته الفكريّة ليقيمها على ثلاثة خطوط متوازية:

أوّلها: التعرّف إلى المجتمعات الغربيّة كما هي في واقعها من خلال مواكبة تطوّراتها العلميّة والفكريّة والثقافيّة والسياسيّة، وكذلك عبر ما تقدّمه نخبُ تلك المجتمعات من معارف في سياق إعرابها عن القضايا والمشكلات التي تعيشها في مطلع القرن الحادي والعشرين.

ثانيها: التعرّف إلى المناهج والآليّات التي اعتمدها الغرب حيال الشرق، والمجتمعات العربيّة على وجه الخصوص، وذلك بقصد جلاء الكثير من الحقائق، وتبديد الأوهام التي استحلّت تفكير شريحة واسعة من المثقّفين العرب والمسلمين بسبب الاستشراق الكولونيالي.

ثالثها: وهو خطّ النقد، وقد سيَّلَه على ثلاثة أوجه:

الوجه الأوّل: نقْد قيَم الفكر الغربي، وآثارها المترتّبة فكريّا على الإنتلجنسيا العربيّة، وبيان ظواهر الاستغراب السلبيّ النّاجمة عنها.

الوجه الثاني: نقْد الغرب لذاتِه من خلال مُعاينة ما قدّمه الفلاسفة والمفكّرون وعلماء الاجتماع الغربيّون، ولا سيّما لجهة نقْد العَلْمَنة، واستحضار سؤال الدّين كسؤالٍ لا يفنى في تاريخ الحضارات الإنسانيّة مهما استغرقت في دنيويّتها.

الوجه الثالث: نقْد فَهْم الإنتلجنسيا المشرقيّة للغرب، من حيث كونه فَهما محكوما بسيكولوجيّة التلقِّي والقبول والاستتباع، وهو ما يجوز نعتُه بـ«الاستغراب» السلبيّ.

لقد أدركَ جورج قرم أنّ التنظير غير موقوف على توصيف ظواهر الأفكار والأحداث، بل هو، قَبل أيّ شيء، مجهود متبصِّر يقصد مُعاينة القابليّات الكامنة وراء الظواهر، والمُفضية من ثمّ إلى ولادتها. من أجل ذلك يمتدّ الأُفق الذي يتّخذه المنظِّر مَسلكاً له إلى عُمق الفكرة ومنشأ الحدث، ليستظهرَ منهما ما يشقَّ على الفهْم. أَدرك أيضا أنّ الأمر نفسه ينبغي أن يجريه التنظير حيال الزمن العربي الرّاهن وأحداثه من أجل أن يُعاين ما يحتجب في تحوّلاته، وجلاء ما يحيط به من لَبْسٍ واشتباه. وعليه، فإنّ مهمّته كمنظِّرٍ سلكتْ اتّجاهَيْن متلازمَيْن: أنطولوجي وتاريخي. ومثل هذا التلازُم هو شأنٌ أصيلٌ وجوهريٌّ في الجهود التي يبذلها المنظِّر حتّى يتعرّف إلى العالَم ويفهَم حقائقه المُعلَنة والمُستَتِرة. ومن أجل ذلك حقَّ التفكّرُ بهما معا، وذلك خلافا لما درجَ عليه الفصلُ القهريّ الذي اقترفه بعضُ تيّارات الثقافة التاريخيّة العربيّة حين دعا إلى إحداثِ قطيعةٍ معرفيّة مع التراث كشرطٍ لإنجاز إحياء حضاري جديد.

بهذا المعنى رمى مسلكه في التنظير إلى قلب الحوادث التاريخيّة، لاستكشاف أسباب ظهورها، أي متاخمة المبدأ الذي بسببه وُلدت الأحداث من الأفكار، والأفكار من الأحداث، ثمّ أن ينتقل إلى طورٍ أعلى ليُتاخِم ما لا يتناهى التفكُّر فيه، وتلك مهمّة مركّبة تستحثُّ على التقدُّم نحو فتوحاتٍ فكريّة تملأ مناطق الفراغ في الحيّز الحضاري الذي تنشط فيه، مثلما تُسهِم في تخصيب فعاليّات التفكير على نطاق الحضارة الإنسانيّة ككلّ، فإذا كان للتنظير غايةٌ تأسيسيّة لأفقٍ جديد في التفكير، فبديهي أن يجري البحث عن سؤالٍ مؤسِّس يكون من طبيعته وسلالته. وما ذاك إلّا ليقينٍ عند صاحب السؤال المؤسِّس بأنّ خطبة الحداثة قاصرة عن الإفلات ممّا أنتجه عقلُها الأداتي وأسئلته الفانية، فالسؤال المؤسِّس راسخ وأصيل ومجاوز لما هو عابرُ وعارض من أفكار وأحداث. بيد أنّه، وهو يغتني بهذه السمات المُفارِقة، لا ينأى عن دنيا التحوّلات، بل هو يُقبِلُ نحوها ويشملها باهتمامه ورعايته باعتبارها حقلا ضروريّا لبلوغ أهدافه الكبرى. هكذا يكتسب السؤال المؤسِّس القدرةَ على التمهيد للما بعد، ثمّ يواصل امتداده الخلّاق على نحوٍ لا تحدّ من نشاطه وديمومته فوضى الوقائع وغموض الآثار المترتّبة عنها.

* * *

ليس في ظنّي أنّ جورج قرم، وهو المثقّف الموسوعي الكبير، كان غافلاً عمّا عصفَ بالحداثة الأولى، وفلسفتها من اختلالات تكوينيّة.. ربّما تناهى إليه ما ذهب إليه الفيلسوف الألماني المغمور فرانز فون بادر Franz Von Baader (1756- 1841) لمَّا كشَفَ عن فجوات الحداثة، ليُعيد أسبابها إلى انفصالها المريع عن المبدأ المؤسِّس لعِلم الوجود. حالذاك سيقارب «بادر» موضوعَه الشائك على نحوٍ فارَقَ فيه معظم فلاسفة الحداثة من ديكارت مرورا بكانط وصولا إلى هيغل ومَن تبعهم، فالتفكير السويُّ - بحسب «بادر» - بالاستفهام عن الشيء يؤسِّس بنية الوجود والتفكير، ويقصد بذلك المبدأ الأساسيّ الذي يُحدِثُ الكينونة ويؤيّدها ويرعاها. لقد رأى أنّ تفكيرا لا يكون نابعا من ذاته وواعيا لذاته وللغَير لا يُمكن أن يكون مؤسِّسا، ومُحدِثا للتفكير والوعي، فالسببيّة الأولى هي سببيّة أولى، لأنّ الإحداث يعني التأسيس بالذّات، والتفكير بالذّات والوعي بالذّات. وبناءً على هذه النتيجة يصبح كلّ تفكير ذاتيّ للموجود المحدود مفكَّر فيه، ويعرِف أنّه مفكَّر فيه في الوقت نفسه. بذلك يكون «بادر» هو أوّل من أماطَ اللّثام عن الخَلَلِ المعرفيّ في ذاتيّة الكوجيتو الديكارتي، على أساس أن «الأنا أفكّر» (الكوجيتو) هي دائما في الوقت نفسه «أنا مفكّرٌ فيّ إذاً أنا أفكِّر» (cogitor ergo cogito).

لم يحِدْ جورج قرم عن صراط السؤال المؤسِّس للإجابات التي ستؤسّس للما بعد، للإحياء الحضاريّ الجديد في مشارق أرض العرب ومغاربها. من أجل هذا، لم يأتِ بفرضيّة في الفلسفة السياسيّة أو في علم الاجتماع والاقتصاد أو في الحقل الحضاري إلّا أحالها إلى مبدئها المؤسِّس.. إلى الأصل الذي اصطبغت عليه ماهيّتها وهويّتها الأولى، وما ذاك عنده إلّا من قَبيل حكمة النظر الموصولة بعروةٍ وثقى بأخلاق العمل، ولنا مثال بيِّن لمَّا اقترب من الحُكم مستشارا، ولمَّا صار في الحُكم وزيرا، وحاله في المقامَيْن حكيما ومتخلِّقا ومريدا لحقيقةٍ لا يخشى في قولها وإبدائها لَومة لائم.

* مُحاضر في الفلسفة والإلهيّات - لبنان

* ينشر بالتزامن مع دورية «أفق» الإلكترونية