بعيداً عن التهويل والتأويل، سأحدثكم عن صناعة النجاح المتمثلة في شخص أحد قادته ومن احترفوا صياغته حتى أصبح كل ما يقوم به يسير وفق منهج وهدف واضح المعالم جلي الهيئة سامي المقاصد.

وكما هي سيرة الخالدين فلم تكن رحلة «ملهي بن سلامة بن سعيدان» خالية مما يعكر صفوها ويعثر خطوها بل على العكس تماماً فقد كانت مليئة بالتجارب والتحديات التي تنوء بحملها جبال الهمم العالية وتتكسر دونها مجاديف المغامرين المهرة، لذلك كانت النتائج بعد فضل الله وتوفيقه على قدر الجهد والمشقة.

اتكأ أبو سلامة على شخصية فُطرت على الصرامة وتغذت من صحفة الكرامة وشامت عما يعكر صفو المروءة ويقلل من الهيبة، فرسم طريقاً عدّه البعض حينها خروجاً عن النسق العام بحثاً عن الثروة والمال، فقد حملت الذاكرة المحلية لدى الكثيرين أن المحافظة على القيم العليا والسير عليها دون ميل، ومطاردة بريق الذهب وجمعه في آن واحد سيكون من المستحيلات، ولكن صاحبنا قد وفقه الله لذلك، بل أعتقد جازماً أنه قد أسس مدرسة خاصة يحتاج منهجه فيها إلى تفكيك وتحليل وتطبيق لمن كان لديه الشغف والرغبة في معانقة الثريا.


وصفات النجاح التي كتب ويكتب عنها علماء الإدارة والاقتصاد وقصص البارزين على مستوى العالم والتحولات التي حصلت لهم ليست كما يظن الواهمون بأنها شربة ماء تساغ لكل حالم، بل هي مهمات جسام وعقبات كؤود وتحديات مع النفس دون تخطي أسوارها خرط القتاد، ولأني قد تعاملت بشكل مباشر منذ سنوات طويلة مع صاحبنا فقد رأيت إنساناً يعمل كل يوم وكأن ذلك اليوم أهم وقت يمر عليه، كل ما تتوقعه من نشاطات يتم ممارستها وأدائها، بدءًا بإجابة داعي الرحمن فجراً وحتى الخلود إلى شيء من الراحة قبل منتصف الليل. اجتماعات العمل العديدة جداً، وزيارات المشاريع الكثيرة، والمشاركة في ورش العمل التي تعنى بالتخطيط للمستقبل، ومقابلة الزائرين، والإشراف على الأعمال الخيرية، وتلبية دعوة الأصدقاء، واستقبال الضيوف، ومؤانسة الأهل وملاطفة الأحفاد، كل ذلك وغيره يتم في يوم واحد، وقد تجد هذا اليوم مكرراً بشكل كبير طيلة العام.

المثابرة سلاح مجرب ورفيق اعتمد عليه ملهي في أعماله ومشاريعه التجارية، أحاط نفسه بثلاث دوائر قريبة جداً ومختصرة، أولها دائرة إخوته وأبنائه الذين يطلعهم على كل تفاصيل العمل ويوكلهم المهام المناسبة لكل شخص، الدائرة الثانية دائرة المستشارين الفنيين الذين يحيلون الأفكار إلى مشاريع مرسومة ومخططات وتكاليف مالية، الدائرة الثالثة هي دائرة الشركاء الذين لا يزيد عددهم عن أصابع اليد الواحدة، فقد تكونت علاقة ثقة بينهم وتاريخ من النجاحات التي لا يماري فيها من تذوق حلاوة النهايات وحيازة قصب السبق، لمشاريع كلها دون استثناء سبقت عصرها وأضافت للسوق معايير جديدة، وفتحت مجالاً يتنافس فيه المتنافسون، أما صديقنا بعد كل مشروع يكون قد انتقل إلى كوكب آخر وفكرة جديدة سيسهر الخلق جراها ويختصمون.

سأختم بالقول: إن ما أحدثه الشيخ ملهي بن سعيدان من تغيير جذري في مفهوم ومستوى العمل الخيري تجاوز ما يمكن أن يتوقعه أي متابع متفائل، فقد بقينا عقوداً طويلة نكرر ذات النماذج للدعم المباشر واللازم، في حين أن ما قام به هو تطوير شامل للمفهوم وتأكيد أهمية وجود مشروعات خيرية متعدية الأثر يراعى فيها المكان والزمان والحاجة، وتكون عضيداً ومكملاً للمبادرات التي ترعاها الدولة. وها هي المستشفيات التي تقام في مناطق مختلفة من الوطن، والتي يغطي كل منها احتياج وطلب متزايد على خدمات علاجية محددة، كما حدث في مبادرته لإنشاء ثلاثة مراكز في منطقة عسير لخدمة محتاجي الأطراف الصناعية وغسيل الكلى والكشف المبكر عن أمراض السرطان؛ حيث إن الطلب على تلك الخدمات العلاجية أعلى من المتوفر مما يستدعي سفر المرضى إلى مناطق أخرى، وهو ما يرهق ميزانية الدولة أعزها الله، والتي تقوم بتوفير تذاكر السفر و السكن والعلاج لمن لا يتوفر لهم العلاج في مناطقهم، ولكم أن تتخيلوا العائد على مثل هذه المشاريع، ليس في التوفير المالي فحسب بل الأهم من ذلك التخفيف من أعباء السفر والتنقل والإرهاق النفسي والجسدي الذي يصيب الناس جراء التنقل. يقول ابن سعيدان إن فلسفة العمل الخيري لديه تقوم على أساس الآية الكريمة «إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير».

فجميع الأعمال الخيرية والمساعدات والهبات التي تمس الأشخاص لا يتم الإعلان عنها طلباً لأجر إخفائها وحفاظاً على كرامة المحتاجين، ويتم الإعلان عن المشروعات المتعددة النفع كإنشاء المستشفيات وبناء المساجد والمراكز وغيرها، رغبة في تأصيل النموذج وبناء قدوة للغير.

هذا غيض من فيض، دروس النجاح التي من النادر أن تجد من نجح في جميع مجالاتها التجارية والتطوعية والخيرية والاجتماعية، نجاحات ملهي بالنسبة لي لا تقاس بحجم الثروة بل بقدر التأثير في الآخرين، وقد رأيت ذلك واضحاً وجلياً في عدد من القضايا ليس أقلها رفضه المباهاة والمبالغة في الديات بل رفضه المساهمة فيها في كثير من الأحيان وتبعه في ذلك آخرون.

ملهي بن سلامة بن سعيدان نموذج للمواطن الصالح الذي يعمل بصمت ويقول أمام الملأ إن هذا المال الذي اُوتيته ليس إرثاً بل رزق وفضل من الله، ثم من الأعمال التي نقيمها في هذا الوطن المعطاء، والذي نبادله الحب بالحب والتمكين بالولاء ورد الجميل، شكراً لك أبا سلامة وكثّر الله من أمثالك.