مواصلة للاهتمام العالمي المتزايد بقضايا حقوق الإنسان، والحرص الذي تبديه المؤسسات الدولية ومراكز صناعة القرار العالمي على كفالة هذه الحقوق وصيانتها ومنع التعدي عليها مهما كانت المبررات والدوافع، بدأ الحديث يرتفع بصورة ملحوظة هذه الفترة الأخيرة بضرورة توسيع المفهوم التقليدي لحقوق الإنسان ليشمل الحقوق الرقمية، وذلك نسبة لما باتت تمثله التقنية الحديثة في حياتنا والدور المتعاظم الذي تؤديه، حيث لا يكاد يخلو بيت في العالم من أحد هذه التقنيات، وأصبح الإنسان الحديث لا يتصور أن تسير حياته بانتظام دون الاعتماد على هذه التقنيات أو أحدها على أقل تقدير.

ويدور مفهوم الحقوق الرقمية للإنسان في السماح للفرد بالوصول إلى الإعلام الرقمي واستخدامه وإنشائه ونشره أو الوصول إلى أجهزة الحاسوب وغيرها من الأجهزة الإلكترونية أو شبكات الاتصال واستخدامها. كما يرتبط هذا المصطلح بشكل خاص بحماية وإعمال الحقوق الموجودة، مثل الحق في السرية أو حرية التعبير في سياق التقنيات الرقمية الجديدة، وخصوصًا شبكة الإنترنت التي يعد الوصول إليها حقًا تكفله القوانين.

كما تشمل حقوق الإنسان الرقمية حقوق الأفراد في استخدام التكنولوجيا والمعلومات بطريقة تحمي كرامتهم وتضمن حرياتهم الأساسية. تتضمن هذه الحقوق العديد من الجوانب، مثل الخصوصية، والحق في حماية المعلومات الشخصية وعدم تعرضها للانتهاكات، وحرية التعبير، والوصول إلى المعلومات، والحماية من التمييز، بحيث يتم ضمان المساواة في الوصول إلى التكنولوجيا بغض النظر عن العرق، الجنس، أو الدين، وكذلك الأمان الرقمي الذي يحمي البيانات والأجهزة من الهجمات الإلكترونية والتهديدات.


كذلك فإن من ضمن هذه الحقوق الحق في التعليم وبناء القدرات في سياق التطوير، إضافة إلى ضرورة إيجاد بيئة تكنولوجية آمنة، وتمكين المستخدمين من التصرف والتفاعل مع البيانات، واكتساب ثقة المستخدمين واشتراط الحصول على موافقتهم قبل استخدام بياناتهم أو الوصول إليها بأي شكل، سواء كانت في أجهزة الحاسب الآلي، أو الهواتف الذكية، أو أي جهاز آخر متصل بالإنترنت.

وبذلت مؤسسات صنع القرار العالمي جهودا كبيرة في هذا الصدد، وبادرت بسن العديد من التشريعات والقرارات الدولية التي تحمي الحقوق الرقمية، وكانت البداية بإعلان القمة العالمية حول مجتمع المعلومات تحت رعاية الأمم المتحدة 2003، وأيضاً القرار رقم (13) لعام 2012 الصادر عن مجلس حقوق الإنسان بخصوص تعزيز وحماية والتمتع بحقوق الإنسان على شبكة الإنترنت.

ومن ثم أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا بتاريخ 7 نوفمبر 2013 بعنوان «الحق في الحياة الخاصة في العصر الرقمي»، وتبعها القرار تحت الرقم 167/68 لعام 2014 بشأن الحق في الخصوصية في العصر الرقمي، وغير ذلك من العهود والمواثيق الدولية.

إذا نظرنا إلى الواقع المحلي في المملكة العربية السعودية لمعرفة الإنجازات التي تم تحقيقها نجدها قد قطعت شوطا كبيرا في هذا الصدد، حيث تكفل للمواطنين والمقيمين الحق في الحصول على خدمات الإنترنت بسهولة وبأسعار مقبولة، والوصول للخدمات الحكومية الرقمية. كما نفذت عدداً من البرامج والمبادرات المتعلقة بتوفر المنصات والخدمات الحكومية، وسهولة الوصول لها، والاستفادة منها، ومحو الأمية الرقمية، وبناء المهارات.

ولم تكن جهود المملكة في هذا الصدد نتاجا لمحاولات فردية أو اجتهادات شخصية، بل قامت على إستراتيجيات واضحة، فقد نصت رؤية 2030 على حتمية وأهمية التحول الرقمي وضمان وصول الجميع لوسائل التقنية الحديثة والاستفادة منها، فالمحور الثالث من محاور الرؤية «وطن طموح» يشير إلى فوائد هذا التحول وأهميته وضرورته لجميع المواطنين السعوديين والمقيمين، وخصوصًا الفئات الأضعف.

كذلك فإن برنامج التحول الوطني وضع عدة أهداف تركز بشكل مباشر على الإدماج الرقمي لجميع المستخدمين حيث يشير الهدف (14) إلى الارتقاء بجودة الخدمات المقدمة للمستفيدين، فيما ينص الهدف (23) إلى تطوير الحكومية الإلكترونية، إضافة إلى تشديد البرنامج على تمكين المواطنين وتوعيتهم من أجل زيادة تبني الحكومة الذكية. إضافة لزيادة الوعي لدى المواطنين، وتمكينهم من الوصول للخدمات الحكومية الذكية والاستفادة منها.

ونتيجة لهذا التخطيط السليم والجهود الكبيرة فإن المخرجات كانت مبهرة، حيث تؤكد الإحصاءات أن 100 % من السكان يحصلون على تغطية شبكة هاتف خلوي، و96 % منهم يستخدمون الإنترنت، وأن 95 % من النساء يستخدمن الإنترنت مقابل 97 % من الرجال وأن 99 % من الأسر لديها إمكانية الوصول إلى الإنترنت في المنزل. وهذه الإحصاءات تؤكد الطابع العملي لرؤية 2030 وأنها ليست مبادئ على الورق فقط، بل خطط واقعية يتم رصدها بدقة شديدة ومن ثم يتم العمل لتنفيذها على أرض الواقع بمتابعة لصيقة من المسؤولين على أعلى مستوياتهم.

ورغم هذه الجهود الضخمة التي تبذلها الدولة، فإن هناك حاجة ملحة لتفاعل القطاع الخاص والقطاع غير الربحي في هذا الأمر، فمن الضروري التأكيد بوضوح على أن الحقوق الرقمية لم تعد مجرد رفاهية، بل صارت جزءاً أصيلاً من الحقوق الأساسية للإنسان ونحتاج بشدة إلى تسليط الضوء على هذه الحقوق التي يجب رفع مستوى الوعي بها عبر وسائل الإعلام المختلفة والمؤتمرات والندوات وورش العمل المتخصّصة.

فالمملكة التي تبوأت مكانة مرموقة في هذا الصدد، وتم تصنيفها من بين أفضل الدول المتقدمة على مستوى العالم لإطارها الرقمي القوي، وأصبحت من بين الدول العشر الأول في العالم في المهارات الرقمية في تقرير التنافسية العالمية المنشور في المنتدى الاقتصادي العالمي 2020 لن ترضى بالتأكيد بأقل من الوصول لمستوى الريادة في هذا المجال، وهذا هو وضعها الطبيعي الذي يليق بها.