وصف الله سبحانه وتعالى أمتنا بأنها خير أمة: "كنتم خير أمة أخرجت للناس". وذلك لأننا ننتمي لأفضل دين وأسمى عقيدة.. الدين الذي يسمو بنا بفضل سمو مثله وقيمه وأخلاقه.. فهو دين المحبة ودين التسامح ودين التعاون ودين التفكر والتدبر والصفاء والنقاء.. وإذا أردنا أن نسحب هذه القيم السامية على ما نراه من طرح وما نشاهده من حوارات رأيت أننا أبعد ما نكون عن هذه القيم السامية.. فما الذي يحدث لأبناء هذه العقيدة النقية الطاهرة؟ إنه سؤال كبير ومحير؟ محتوى حواراتنا لا يهم أمتنا في عصرها هذا.. حوارات حول تاريخ ذهب وذهب أهله وأفضوا إلى ما قدموا، وكل ما نكسبه من هذه الحوارات هو الانشقاق والتفرقة.. فلماذا نلجأ لمثل هذه الحوارات؟ وحواراتنا يغلب عليها شن الحروب الشعواء ضد بعضنا البعض، ولا نرضى دون هزيمة من نتحاور معه. فلماذا نريد هزيمة بعضنا البعض ومن نخدم بذلك؟ إننا لا ننشد الحقيقة في حواراتنا بل نحتكرها.. إننا لا نناقش لنتعلم بل لنعلم.. إننا لا نتحدث بهدوء بل بأصوات مرتفعة.. إننا لا نحترم الآراء المخالفة بل ننسفها. وهذه جميعا تخالف قيم الحوار وأدبياته، فأن تكون على حق لا يجب أن يكون صوتك عاليا.. وروي عن أبي حنيفة: "كنا نتجادل وكأن على رؤوسنا الطير مخافة أن يزل صاحبنا". ونحن نناظر ونريد أصحابنا أن يزلوا بل نتشوق لزلتهم.. أين أنت يا أبا حنيفة لترى قومي اليوم؟ أمتنا تعاني من الضعف والهوان والخذلان.. وتتطلب حوارا جادا هادفا يقيلها من عثرتها.. ويرتقي بها من هوانها.. ويسمو بها إلى مكانة عقيدتها.
أمتنا تحتاج لكل ذلك إلى جهد كل فرد من أفرادها.. إننا نسير في الاتجاه المعاكس يا قوم.. والمكاسب الشخصية هي مكاسب على حساب العقيدة وعلى حساب الأمة وعلى حساب النصر والعزة.. إننا نقوم بدور الأعداء فيهزم بعضنا البعض ويهدم بعضنا مجد بعض لننحدر إلى مزيد من الضعف ومزيد من الهزيمة.. قولوا لي بربكم ماذا نستفيد من حوارات تاريخية نختلف فيها في إيجابيات شخصية إسلامية أو سلبياتها؟ أو موقعة تاريخية؟ وقولوا لي بربكم ماذا نستفيد عندما تنتصر بحجتك في أمر لا يعالج قضية هامة أو يكون لبنة في بناء الأمة؟ أتعرفون السبب؟ إنها منهجية التفكير العقيم الذي تعاني منه أمتنا وأبناؤها في هذا العصر.. تلك المنهجية التي تجعلنا نتقاتل عند قضية لا تنفع الأمة في حاضرها.. أنا لا أقلل من أهمية الموضوعات لكنني أقول إنها في الوقت الخطأ. كنت أتمنى ألا ينقص أمتنا إلا ما نتحاور فيه اليوم، لكن الأمر غير ذلك.. إننا في واد، وقضية أمتنا الحقيقية، ضعفها وهوانها وتخلفها، والتي يجب أن نجتمع على مناقشتها ونجد الحلول الكفيلة بحلها في وادٍ آخر.. كان يجب أن يكون الحوار هنا.. وكان يجب بما تمليه علينا قيمنا ومثل ديننا السامية أن نختلف حولها اختلاف تنوع في الطرق والأساليب المؤدية للأهداف التي نتفق عليها. هنا اختلافنا اختلاف تنوع مطلوب، لكن الذي يحدث هو اختلاف التضاد الذي يفرقنا ويفتتنا ويؤدي إلى الشحناء والبغضاء والعداوة ثم الاقتتال.. أليس في كتابنا الكريم: "ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك".. وأيضا "فقولا له قولا لينا"؟
ومع أن الرسول صلى الله عليه وسلم صاحب الصواب والحق إلا أن الله عز وجل يأمره بمنهج تفكير سام في الحوار حيث يقول عز وجل: "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين".. انظروا كيف بدأنا نفرق بين أبناء أمتنا الذين يشهدون أن لا إله إلا الله إلى أسماء غير مناسبة. وهنا نسأل سؤالا نريد من الجميع أن يفكروا فيه جيدا ويجيبوا عليه:
هل تحتمل أمتنا هذا الانقسام بين أبنائها فيما تتعرض له من هجمات شرسة من أعدائها وفيما تعيش تخلفا وهوانا وضعفا؟
يجب أن ننظر إلى بعضنا البعض بمنظار الدين الواحد والهم الواحد والهدف الواحد، يجمعنا الإسلام وإذا كنا مواطنين لبلد واحد ننظر بمنظار الوطن الواحد نعرف واجباته ونعمل سويا لرفعته.
التفكير الذي يسود الساحة الآن هو كيف يهزم بعضنا رأي بعض وكيف نقوى ببعضنا ضد بعضنا الآخر! يا له من نمط غير سوي حتى لا أقول إنه نمط متخلف يعمل على تعزيز قوة أعدائنا ويزيد من تخلفنا وتشرذمنا. تدبروا كيف يسُتقبل خطابنا الإسلامي ونحن بهذه الصورة الممقوتة.
إن منهج التفكير القائم بين معظم المسلمين اليوم أدى إلى تغيير في صميم الخطاب الإسلامي الحديث. لنعد إلى الخطاب الإسلامي الصحيح الذي يدعو إلى التدبر والتفكير واستخدام العقل ومخاطبة أصحاب الألباب وتحريض أبناء الأمة على الاستزادة من العلم والاختراع والتعاون مع الآخرين للاستفادة منهم ومناقشة هذا الأمر لمعرفة كيف يمكن تحقيقه. وهذا يعود بنا إلى قيمنا السامية ويرتقي بأمتنا.
نسأل عن مجمل محتوى الخطاب الإسلامي اليوم ونحلله تحليلا موضوعيا منطقيا لنعرف بالضبط هل هو في صالح الأمة ودينها أم أن تغييرا مهما يجب أن يطرأ عليه؟ دعونا نعيد التفكير في طريقة تفكيرنا وفهمنا للعالم من حولنا، وطريقة فهمنا لمجتمعنا الذي فرض عليه العصر التغيير.
إن القضية هي منهج تفكير لا أكثر. منهج تفكير المسلمين اليوم لا يتناسب مع عصرهم، إنه منهج يؤدي إلى استمرار التضاد الأمر الذي يجعل أمتنا قابعة في مكانها.
فكروا كيف تعامل قضايانا العادلة على مستوى العالم.. إننا أصحاب قضايا عادلة نخسر أمام أصحاب القضايا الخاسرة بسبب ضعفنا وهواننا على الآخرين.. إننا أصحاب عقيدة صحيحة نقية فريدة قويمة فيها قيم ومثل في منتهى السمو والنقاء.. لكننا لم نعكس هذا في تصرفاتنا وخصوصا حواراتنا التي هي موضوع هذا الحديث.. ذكرت في مقدمة المقال الآية الكريمة: "وإنا أو إياكم لعلى هدى".. ولنتمثل بها في نقاشاتنا.. ولنتذكر قول الشافعي: "ما تحاورت مع امرئ إلا تمنيت أن يكون الحق معه". ويقول: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".
فلنعد التفكير في طريقة تفكيرنا، ففي طريقة تفكيرنا خلل كبير.