الإرجاف -كما ذكرنا سابقًا- (محاولة زعزعة استقرار المجتمع، وتشويه الثقة بين الشعب وحكامهم، وتزييف الهوية الوطنية، وتعزيز الخوف من المستقبل، وإشاعة التاريخ المزيف). قد يشارك في الإرجاف بعض المثقفين والشرعيين من خلال صمتهم عن نقد الصحوة التي كانوا ينتمون إليها أو قريبين منها. هناك من كانوا داخل الصحوة سابقًا وصُدموا من بشاعة الخطاب الصحوي، ثم خرجوا منه كارهين له. لكن المفارقة أنهم صامتون عن نقد الصحوة وعن كشف ضررها على المجتمع، ولا ينقلون -على الأقل- سوء تجربتهم السابقة مع الصحوة. هذا الصمت -من وجهة نظر وطنية- أعتبره صمتًا لا أخلاقيًا ومشاركة -غير مباشرة- في الإرجاف. هناك واجب أخلاقي تجاه الأرض التي تحمل الإنسان والوطن الذي يحميه، سواء كان مثقفًا أو شرعيًا أو مواطنًا. خصوصًا الشرعي الذي يخبره الدين بضرورة حماية المجتمع والوطن والدفاع عن مصالحه.

عندما كنت أواجه الصحوة «الفلسفية» -التي بدأت بعد الربيع العربي- كنت أنقد منظّريها بشدة بعد تلونهم، بدخولهم إلى الحقل الفلسفي من أجل استقطاب الشباب من خلال شعار «مواجهة الإلحاد». كان بعض الشرعيين والمثقفين يدافعون عن الصحوة «الفلسفية»، ويهاجمونني بقسوة، اعتقادًا منهم بأنها سلفية وليست صحوة. الصحوة دائمًا مغلفة برداء السلفية، لذلك كان المدافعون عنها يعتقدون أنهم يدافعون عن السلفية، وعن الإسلام، غير منتبهين لهذه الخدعة المتكررة في كل حقبة. الأهم هنا، أنه عندما تبيّن لهم الأمر بعد عدة سنوات، أجدهم صامتين عن نقد ذلك الخطاب الذي خدعهم باسم الدين وشعار «مواجهة خطر الإلحاد».

كنت حينها وحدي -على مواقع التواصل- أنتقد ذلك الخطاب الصحوي/ الفلسفي بعد أن أدركت خطره وذكاء شعاره الجديد في استقطاب الشباب الناشئ المتعطش للفلسفة اللاهوتية. كانت مواجهتهم صعبة، ولكنّني شعرت بمسؤولية وطنية، وواجب أخلاقي يقع على عاتقي كمثقف، وناقد مسؤول عن توعية المجتمع والكتابة من أجلهم. لم أكن أرجو من تلك المهمة أي هدف شخصي، بدليل أنني توقفت عن محاربتهم بمجرد أن وصلت رسالتي، وانتشر الوعي ضدهم، ومُنعت كثير من كتبهم. وقد أكمل غيري المسيرة، ولم أطمع في هذا المسار، حتى لو كان مفيدًا لي جماهيريًا. فإن لدي ما هو أهم في حقل العلم والمعرفة. اكتفيت بالواجب الأخلاقي الذي أحمله لهذا الوطن كمثقف، وكمواطن في المقام الأول، بتنويه المجتمع على الخطاب الصحوي الجديد، لتفادي تكرار الخطأ السابق.


المفارقة الأخرى، أن كثيرًا من السلفيين الذين انخدعوا بهذا الخطاب الصحوي الجديد، لم ينتجوا نقدًا منظمًا ضدها كما كانوا يفعلون في الدفاع عنها، رغم أن نقد الصحوة من داخل السلفية يحمي خطابها من التشويه والاستغلال. هذه الحالة لا أعلم أسبابها بشكل دقيق حتى الآن، وأجدها مفارقة نفسية «لا واعية» أكثر من كونها «واعية». لذلك، أجد في هذا الصمت مشاركة في الإرجاف، ومساعدة الخطاب الصحوي الجديد على الاستمرار بطريقة غير مباشرة. لأن الخطاب المرجِف يستمر عندما لا يجد نقدًا يكشف خفاياه.

لكني أسألهم في صمتهم: أين الضمير الأخلاقي تجاه الأرض؟ أين الأمانة الأدبية؟ أين الوفاء تجاه الوطن؟ الصحوة ليست خطابًا بريئًا، وعلى المثقف والشرعي مسؤولية نقدها أدبيًا وفلسفيًا، وتوضيح ذلك للمجتمع. هذه المسؤولية الأخلاقية هي الفارق بين المثقف الحقيقي والمزيف. الصحوة لا تحترم أي مجتمع مطمئن، ولا تريد وطنًا مستقرًا. الصحوة لا تعترف بفكرة الوطن من الأساس؛ ولهذا خطابها دائمًا «إرجاف» يهز أركان المجتمع بالفوضى والشتات.

الوطن ليس حفنة تراب، الوطن «أرض» تحتضن دماء أجدادنا تحت ترابها. مسؤولية الدفاع عنها هو الشرف الذي يجعلنا نعيش بكرامة.