استكمالا لحديثنا السابق عن العصرانية ومحاولتها إيجاد نوع من المقاربة ما بين الإسلام والعصر الحديث، وذلك عن طريق إعادة النظر في تعاليم الإسلام وتأويله تأويلا عصريًا، وإخضاعه لنظريات وتصورات ومعطيات الحضارة الغربية، وفي هذا المقال البحثي نرصد بعض كتابات العصرانيين المفضية لهذا التحول، لنقف على نمط تفكيرهم، والخلل الفادح في طريقة طرحهم لأحكام ومسائل وقضايا الدين.

وقد تناول الباحث محمد بسطامي في دراسته (مفهوم تجديد الدين) فكر ومنهج العصرانية وتأويلاتها، ابتداءً من سيد أحمد خان وخلفائه حيث جاء من بعد خان، ممن تتلمذوا على مدرسته الفكرية، كشراغ علي وأمير علي، وخدا بخش الشاعر، وغلام أحمد برويز، وخليفة عبدالحكيم، ومولانا محمد علي.

فمن أظهر مؤلفات شراغ علي (الإصلاحات السياسية والقانونية والاجتماعية المقترحة للإمبراطورية العثمانية والدول الإسلامية الأخرى)، وفي هذا الكتاب تظهر الدعوة إلى التوفيق بين الإسلام والعصر بالطريقة المفضلة لهذه المدرسة، إذ نقرأ في مقدمة الكتاب (لقد حاولت أن أوضح في هذا الكتاب أن الإسلام الذي علمه محمد - نبي العرب - فيه من المرونة ما يمكنه من تكييف نفسه مع التغييرات السياسية والاجتماعية التي تحدث حوله) ويمضي في القول: (أن القرآن أي تعاليم محمد - ليس حاجزًا عن التقدم الروحي، ولا مانعًا من حرية الفكر بين المسلمين ولا سدًا أمام التجدد في أي ميدان من ميادين الحياة سياسية أو اجتماعية أو فكرية أو خلقية).


فالوسيلة التي يقترحها علي شراغ لهذا التزاوج بين الإسلام والتقدم، هي ألا نلصق صفة القدسية بما ليس بمقدس. قائلًا: إننا نضخم هالة القدسية حول النبي وحول أقواله وأفعاله مع أنه (مجرد بشر) وصحيح أن تعاليمه في الأمور الدينية واجبة الاتباع (ولكنه حين يتجرأ بالرأي في الأمور الأخرى فهو لا يعدو أن يكون بشرا) وبهذا المفهوم يرى شراغ أن النبي (لم يوحد بين الدين والدولة مطلقًا) وهكذا يفتح شراغ على بهذه المفاهيم الطريق لمن يريد إسلامًا حديثًا وعصريًا.

ومن تلاميذ سيد أحمد خان أمير علي (1849- 1928)، فقد تلقى تعليمه في كلية عليكره التي أسسها سيد أحمد خان، والتي تحولت فيما بعد إلى جامعة، ثم تعلم في إنجلترا، وعرف بتعمقه في الثقافة والآداب الإنجليزية، ومن أشهر كتبه (روح الإسلام) الذي ألفه بالإنجليزية وظهر عام 1922 ولاقى الكتاب خاصة في الغرب رواجًا لا مثيل له. والكتاب في حقيقته تاريخي عرض في الأول منه السيرة النبوية، وفي القسم الثاني عرض التاريخ الفكري والعلمي والسياسي للإسلام، وتاريخ الفرق والمذاهب، ونقرأ في ثنايا ذلك مثل هذه الفقرات التي تدلنا على النزعة العصرانية فيه، يقول أمير علي:

(حطمت آفة الجمود عند فقهاء المسلمين زهرة الدين الصحيح، كما قتلت روح الإخلاص المقدسة فيه. لقد تجاهل مسلمو الوقت الحاضر «الروح» فقلبوها حبًا في النصوص الجامدة، إن أصحاب الرسول الأولين في تقديرهم وإعجابهم بمعلمهم الأكبر كانوا يطبعون على قلوبهم أوامره وشريعته وتعليماته التي شرعها).

وفي موضع آخر يقول: (إن ما يبدو على قواعد الإسلام من عنف وصرامة، أو عدم قابلية للتكيف مع الأوضاع الحاضرة في الفكر هي التي تقصيه عن كونه دينًا عالميًا... ولكن شيئًا من التمحيص في قيمة الشرائع والمفاهيم التي جاء بها محمد وبعض الإنصاف في تحري الحقائق لابد أن يجلو الطبيعة المؤقتة لتلك القواعد ويجعلها تبدو منسجمة مع متطلبات الأزمنة الحاضرة).

ولكن أين نضع الخط الفاصل بين التشريعات المؤقتة والخاصة بظروف العرب والتشريعات الدائمة الثابتة؟

لعل الإجابة تبدو في هذه العبارة من كتابه (إن الإسلام يتطلب من معتنقيه اعترافًا بسيطًا بحقيقة أزلية، ومزاولة بعض واجبات خلقية أما في النواحي الأخرى فهو يمنحهم أوسع مجال لتحكيم العقل).

ومن تلاميذ سيد أحمد خان مولانا محمد علي وفي أحد كتبه نجد له بعض الآراء الفقهية التي تبين طريقته في محاولة تعديل الإسلام وفق الروح الغربية.

ويحل مولانا محمد علي زواج المسلم من الهندوسية باعتبار أن لهم ديانة وكتبًا مقدسة اعتمادًا على أن بعض الفقهاء اعتبر أن الصابئة من أهل الكتاب.

ومن تلاميذ سيد خان غلام أحمد برويز.

ومن بين الكتب التي تدخل في سياق العصرانية كتاب المفكر والشاعر محمد إقبال على الذي كان في الأصل ستة محاضرات ألقاها عام 1928 في الجامعات الهندية بطلب من الجمعية الإسلامية في مدراس وجمعت في كتاب باللغة الإنجليزية بعنوان: Reconstruction of Religious Thoutht in Islam وترجم إلى العربية بعنوان (تجديد الفكر الديني في الإسلام).

ففي بعض فقرات الكتاب يؤيد إقبال صراحة تلك السرعة الكبيرة التي يتجه بها المسلمون روحيًا نحو الغرب، بعد أن ظل التفكير الديني راكدًا خلال القرون الخمسة الأخيرة، ويرى أنه لا غبار على هذا الاتجاه، لأن الثقافة الأوربية في جانبها العقلي ليست إلا ازدهارًا لبعض الجوانب المهمة في ثقافة الإسلام.

من هذه الآراء تتكشف معالم التجديد الذي يدعو له إقبال، فالتغير والحركة والنمو الذي يصيب العالم الإسلامي من اتجاهه نحو الغرب يقتضي إعادة النظر في التراث وإعادة بناء الشريعة من جديد على ضوء الفكر والتجربة المعاصرة، واستحداث تأويلات جديدة للمبادئ والأصول، وهذه هي معالم العصرانية Modernism فهل كانت تلك حقا هي أفكار إقبال؟

هل كان المفكر محمد إقبال حقًا يدعو إلى هذا النوع من التجديد؟

تصف المفكرة الأمريكية المسلمة مريم جميلة هذه الآراء بأنها من الأخطاء الفكرية التي وجدت طريقها إلى مؤلفات محمد إقبال باللغة الإنجليزية وتقول في كتابها (الإسلام بين النظرية والتطبيق) أن أسوأ ما في الأمر أن العالم الذي يتكلم الإنجليزية وينبغي أن تضاف العربية أيضًا والذي يجهل أشعاره بالأردية والفارسية، يعتقد أن هذا الكتاب يمثل بدقة أفكار العلامة محمد إقبال، وتؤكد مريم جميلة أن إقبال نفسه اعترف في آخر حياته أنها كانت خطأ كبيرًا، وتعرض مقتطفات من شعره تناقض الآراء التي طرحها في الكتاب.

لقد كان محمد إقبال يمر دومًا بمراحل مختلفة للتطور العقلي أثناء حياته، ولم يستطع أن يكون فكرة متكاملة وصحيحة عن الإسلام إلا في السنوات القليلة الأخيرة من حياته، ففي السنوات الأولى من حياته تداخلت أفكار ومؤثرات غربية مع أفكاره الإسلامية.

ففي كتابه (تجديد الفكر الديني في الإسلام) والذي هو في الأصل كتاب فلسفي يحاول من خلاله إعادة بناء الفلسفة الإسلامية بناءً جديدًا أخذًا بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام، إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة، ويبحث إقبال في هذا الكتاب المعرفة المكتسبة عن طريق التجربة الحسية والمعرفة المكتسبة عن طريق ما يسميه التجربة الدينية الصوفية، ويقارن بين نوعي المعرفة هذين، ويناقش أيضًا حقيقة النفس وحريتها وخلودها والألوهية والنبوة وختم الرسالة ومبدأ التغير والحركة في الكون والمجتمع.

وأقدم مثالاً واحدًا يظهر ما عند إقبال من نظرة عصرانية، يقول عن قصة هبوط آدم عليه السلام [وهكذا نرى أن قصة هبوط آدم، كما جاء في القرآن، لا صلة لها بظهور الإنسان الأول على هذا الكوكب، وإنما أريد بها بالأحرى بيان ارتقاء الإنسان من الشهوة الغريزية إلى الشعور بأن له نفسا حرة قادرة على الشك والعصيان] ويقول (أما الجنة والنار فهما حالتان لا مكانان، ووصفهما في القرآن تصوير حسي لأمر نفساني أي لصفة أو حال).

ومن الكتابات التي تدخل في دائرة العصرانية كتاب محمد أسد (منهاج الإسلام في الحكم) و(ترجمة لمعاني القرآن) و(ترجمة لصحيح البخاري) إلى الإنجليزية، والتي تعد نموذجًا للفكر العصراني، فقد أول ما شاء بعيدًا عن تفسيرات السلف، فقصة أهل الكهف يرى أنها ليست سوى أسطورة، ويرى أن أهل الكهف مجموعة من اليهود كانت قد عزلت نفسها في الكهف لدراسة ونقل وكتابة الصحف المقدسة، ويرى أن قصة سليمان عليه السلام التي يحكيها القرآن والمعجزات التي تصاحبها كلها كانت أساطير شائعة عند العرب، وأن التقام الحوت ليونس عليه السلام تعبير رمزي عن الهم والكرب ونعتقد أن محمد أسد رغم إسلامه لم يستطع أن يتخلص من بقاياه المادية فأقبل يؤول ويفسر كل شيء في حدود عالم الحس.

وإن كنا نستثني كتاب (الطريق إلى مكة) الذي هو قصة أدبية رائعة ولا يعد كتابًا فكريًا و(الإسلام على مفترق الطرق) وهو الكتاب الذي لاقى انتشارًا واسعًا لا يعطي الانطباع الذي تعطيه كتبه السابقة.