بالنّظر إلى مَساره الفنّيّ المُمتدّ لأكثر من ثلاثة عقود، وهو مسار يُمكِّننا من ملاحظتَيْن أساسيّتَيْن: النجاح المُستمرّ، والتجديد في الأسلوب والحكايات، يُمكن أن نَجزم أنّ جيم جارموش (1953)، هو المُخرِج السينمائيّ الأمريكيّ المُستقلّ الأكثر نجاحًا وشهرةً من بين مُجايليه أو حتّى مَن سبقوه. هذا الحُكم لا يستند إلى واقعِ ما حقّقته أفلامه من تأثيرٍ في مسيرة السينما فقط، بل إخلاصه للعمل أيضًا وفقَ تصوُّرٍ ذاتيّ بعيدًا عن نظام الاستوديو الذي يكبح الهواجس الفرديّة ويَستبعد القفز فوق الخطوط التجاريّة المعروفة.

من الصّعب أن ننسب سينما جيم جارموش Jim Jarmusch إلى تيّارٍ معيّن أو أن نَبحث فيها عن سماتٍ لتأثيراتٍ أو تقاطُعات، هذا لا يعني تحقيقها قطيعةً مع غيرها بقدر ما يؤكِّد امتلاكَها قدرًا كبيرًا من النقاء والأصالة والتميُّز.

قواعد ذهبيّة


أوّل ما يلفت في أفلام جيم جارموش عدم احتكامها إلى قوانين ثابتة، فهي ليست قوالب معروفة ولا بنيات متوقَّعة، بقدر ما هي تمّرُد ومُغامرات مفتوحة. والرّجل نفسه قال بانعدام القواعد، في أثناء وضْعه خمس قواعد ذهبيّة لصناعة الأفلام. فعَن القاعدة الأولى يقول: «لا توجد قواعد. حين يتعلَّق الأمر بصناعة الفنّ لا مبادئ ثابتة وخطوات محدّدة لأنّ هنالك العديد من الطرق المُختلفة التي يبني المُبدعون من خلالها الثقةَ بأنفسهم حتّى يُحقِّقوا أهدافهم. الفيلم ليس جنسًا فنيًّا ثابتًا، وإنّما هو شكل فنّي مفتوح دائمًا». من هذا المنظور، فإنّ أفلامه حتّى وإن كانت تَجتمع خلف خصائص بعَيْنِها، نراها دائمة البحث والتجديد عن أساليب تحمل هواجسه وقلقه المتفرّق في شخصيّاتٍ يعرف كيف يصنعها. تمرّده يَظهر أيضًا في قوله: «على المستوى الشخصي، ليس من طبعي أن أملي على البشر ما يفعلون (...) ولن أقوم أبدًا بفرْض الوصاية على أحد. حتّى أنّني أنفر من أولئك الذين يختارون لكَ أفكاركَ ودينكَ وطريقَ نجاتك، هُم في الواقع يقومون بدفعكَ للضفّة الأخرى بعيدًا عن الاستقلاليّة الذاتيّة.

القيام بتدوين «قواعد ذهبيّة» لأيّ شأنٍ يتعارض مع فلسفتي الشخصيّة. إذن، تجاهَلْ مفردة «القواعد» التي ستَقرأها الآن في بداية كلّ نصّ، واعتبِرْ في المقابل ما كُتِب هنا مجرّد «ملاحظات» خاصّة أكتبها أنا لنفسي. بناءً على المبدأ الذي يقول إذا أرادَ أيُّ شخصٍ أن يُنجِز أيّ عمل يجب عليه أن يقوم بوضْع عددٍ من الملاحظات التي ستُساعده على عبور الطريق من دون توقُّف. وإذا قال لكَ أحدهم: «هنالك طريقة واحدة للوصول، وهي باتّباع طريقتي أنا وحدي»، فأهرب بجلدكَ وبعقلكَ وبجسدكَ بعيدًا جدًّا عنه (www.faena.com).

الحبكة في أفلام باترسون

اهتمام جيم جارموش بالشخصيّات ينعكس على بناء الحبكة. فليس هناك من مَسارٍ واضحٍ في أفلامه، بحسب ما يقول هو نفسه: «الحياة ليس لديها حبكة، فلماذا على الأفلام والخيال أن يلتزما بها؟» (www.sensesofcinema.com). ولأنّه مُخرجٌ مُهتمّ بما يدور في هوامش الحياة، نراه لا يهتمّ بـ«ماذا» أو بأسباب تصرّفات الناس مثل معظم صانِعي الأفلام. الدوافع غائبة والأفعال حاضرة، لا تدين قصص لسردٍ كلاسيكي منطقي مبنيّ بشكلٍ مُتصاعد، بل الشخصيّات هي التي تَصنع قصَّتَها، لأنّ سلوكات هذه الشخصيّات الغريبة التي قد يَنظر إليها الناس بتعالٍ تلتقطها قصصُه. هذه الشخصيّات لا تَمتلك توجُّهًا ومَسارًا واضحَيْن في الحياة، لذا فلا قِصص تَسندها.

هكذا تتوزّع الحكاياتُ عبر مقاطع توهِم بعدم ارتباط بعضها بالبعض الآخر. نعود هنا إلى فيلم «اللّيل على الأرض»، ونتساءل: ما الذي يَربط بين هذه الحكايات؟ كيف تنفتح الأحداثُ على بعضها، ثمّ نتساءل بجدّ أكبر: هل يَستند الفيلم إلى قصّة؟ إنّ المُربك أثناء الإجابة هو تحقيق الفيلم مسألتَيْن اثنتَيْن. فهو وإن كان لا يُفصح عن حكايةٍ مُتكاملة مترابطة، يخلق فرضيّاتٍ ذهنية بارتباطٍ ما! نحن أمام خمس متواليات حكائيّة في سيّارات الأجرة تحدث في منتصف اللّيل، وفي خمسٍ من مُدنٍ متفرّقة من العالَم. في النهاية، لم نتعلَّم دروسًا ولم نتوصّل إلى استنتاجاتٍ مُثيرة، لكنّنا ولَجنا إلى مجتمعٍ ليليٍّ خالص. لم يتمّ الردّ على العديد من الأسئلة. ماذا عن الشابّة الكفيفة في باريس مثلاً؟ من أين أتت؟ إلى أين هي ذاهبة؟ لماذا تريد أن تمشي بمفردها على حافّة قناة؟ كيف أُصيبت بجروحٍ عميقة؟ كلّ ذلك لا يهمّ في أفلام جارموش. المُهمّ هو مرور هذه الشخصيّات بكامل غرائبيّتها، أفلامه تشبه المسرح، الحكاية فيه غير مقصودة لذاتها، بل الأسلوب هو ما يحقِّق وجودَها.

الليل حياة للتائهين

أفلامٌ كثيرة لجارموش تجري أحداثها ليلاً، نَذكر مثلاً «القطار الغامض» (1989)، و«اللّيل على الأرض»(1991)، و«العشّاق فقط يبقون أحياء» (2013). مشاهد كثيرة ومهمّة في أفلامه تجري ليلًا، وهذا الأمر ليس من قبيل المُصادفة! أن تلتقي شخصيّاته هكذا بشكلٍ غريب ليلًا. جزء من هذا التعلُّق باللّيل يجيب عنه كلامٌ للممثّلة تيلدا سوينتون التي قالت عن جارموش: «جيم ليليّ إلى حدٍّ كبير، لذا فإنّ المَشهد اللّيلي هو إلى حدٍّ كبير لوحته». والجزء الثاني تجيب عنه أفلامه نفسُها التي تؤكِّد أنّ اللّيل هو زمن التائهين، هو فضاء البوح أيضًا والانفتاح على الغريب، لكنّه زمن الخداع والحَذَر أيضًا؛ في اللّيل يُمكن أن تقودكَ المُصادفات إلى أقدارٍ غير محسوبة أو متوقَّعة، فكلّ شخصيّاته عبارة عن أرواحٍ تائهة وهائِمة، شخصيّات غريبة الأطوار منبوذة من المُجتمع، لذا فإنّه من المناسب لها أن تختار زمنَها الخاصّ، والانتساب إلى عالَمٍ آخر هو اللّيل؛ فيُصبِح افتتانُ المُخرِج بالغريب والنّادر والغامِض واضحًا بشكلٍ لافتٍ، ويَنجح عبر اللّيل في التعبير عن حالاتٍ وحواراتٍ ولقاءاتٍ استثنائيّة يُمكن أن تَحدث فيها أغرب اللّحظات والاحتمالات. اللّيل صاخب، لكنّه صادق يقود إلى مَن انتهت بهم السُّبل ويُحقِّق نوعًا من المُساواة عندما يَجعل الكلّ على قَدَمِ المُساواة في البحث عن حلولٍ للخروج من الأزمة. هكذا تَظهر شخصيّاتُ فيلمه «اللّيل على الأرض»، التي يسلب اللّيل تعدُّد اختياراتها ويَجعلها في مَسار القَدَر.

حضورٌ دائمٌ للشِعر

من المعلوم أنّ جيم جارموش بَدأ شاعرًا قبل أن يتحوّل إلى السينما. وبالرّغم من أنّ هذا غير كافٍ لكي نقول إنّ لديه حنينًا لصوت الشاعر، إلّانّ ذلك حاصلٌ سواء تدخَّلت أسبابٌ أخرى أم لا. فالشّعر دائم الحضور في أفلامه. ويُمكن أن نبدأ تلمّسنا لعناصر هذه العلاقة في أوضح أمثلتها في فيلم «باترسون» 2016. وهو الفيلم الذي يقدّم تصوّرًا خاصًّا للشّعر والإبداع بصفة عامّة، فهو يُكذّب الاعتقاد الأزلي بانفصال الشعر عن متطلّبات العمل اليومي؛ الاعتقاد الذي رَبَطَ بين عالَم الإبداع المُفارِق وبين حياة الناس، كون الفنّ هو عمليّة شاقّة يقوم بها شخصٌ حسّاس بشكلٍ يختلف به عن العالَم، وهو بالتالي عمل ينافي الوجود اليومي وتبعات الحياة. فيلم «باترسون» سيُعيد رسْمَ علاقة الذّات بالإبداع، وسيَنزع عنها صفات كثيرة لطالما ارتبطت بها. الشعر حاضر انطلاقًا من عنوان الفيلم «باترسون»، فهو قصيدة ملحميّة للشاعر ويليام كارلوس ويليامز (نُشرت في خمسة مجلّدات بين عامَيْ 1946 و1958)، وهي سرد لحيوات الناس وتاريخ المدينة التي تحمل الاسم نفسه. في الفيلم يصير العنوان اسما لرجلٍ بسيط (أدام درايفر)، يقود حافلةً في مدينة باترسون، هل يُمكن لِمَن يقود حافلةً أن يَكتب شِعرًا؟ حياة باترسون مكرّرة وتبدو رتيبة وهادئة فهو على مدار أيّام الأسبوع يؤدّي الطقوس اليوميّة نفسها: يستيقظ بعد السادسة بقليل كلّ صباح (من دون استخدام المنبّه – حيث يُمكنه الاعتماد على ساعته اليدويّة فقط)؛ يجمع ملابسه عن الكرسي حيث تركها مُرتَّبة منذ ليلة الأمس؛ يتناوَل وعاءً من الحبوب على الإفطار. يمشي إلى العمل؛ يقود الحافلة على مَدار اليوم، ثمّ يتوقّف لتناوُل طعام الغداء؛ وبعدها يتوجّه إلى المنزل لتناوُل وجبة العشاء مع لورا؛ وبعد ذلك يأخذ كلبهما مارفن في نزهة، ثمّ يتوقّف في البار المحلّي لشرب الجعة. بطل الفيلم يَكتب شعرًا جميلاً، من دون أن يؤثّر عليه روتينه اليومي. من الجيّد أن نعرف هنا أنّ الفيلم لا يقول إنّ الجميع يُمكن أن يُصبحوا شعراء، بل إنّ الجميع يُمكن أن يُضمِّنوا حياتهم لحظات إبداعيّة.

إنّ الحافلة أصبحت مستودعًا لأفكار الرجل. خلال الساعات التي يقضيها باترسون خلف عجلة القيادة، أو في أثناء المشي من وإلى محطّة الحافلات في الصباح والمساء، تتجمّع الأفكار وتتشكّل قصائده في ذهنه قَبل أن يَلتزم بها ويُحرّرها على الورق، بالرّغم من أنّه سيَفقد ما كتبه في مصادفةٍ غريبة كما سبق وأشرنا إلى ذلك؛ إلّا أنّنا نقتنع أنّ الشعر هو اللّحظات التي يُفكّر فيها عبر الشعر وليس ما يكتبه فقط. الخلفيّة الأدبيّة والشعريّة وإذ ظَهرت بشكلٍ كبير في «باترسون»، فهي امتداد لفيلموغرافيا جارموش، ولنصوصه دائمة الاقتباس والانفتاح على الأدب والشعر. في فيلم «يسقط بالقانون» 1986، تكثر الاستشهادات داخل الحوارات، فكانت الأبيات مثل فواصل لكلام بوب (روبرتو بينيني) عبر لغته الإيطاليّة المَرحة. كأشعار روبرت فروست، والت ويتمان، في «رجل ميّت» 1995، لا يكتفي باستعارة اسم الشاعر ويليام بليك لشخصيّته الرئيسة كما فعلَ أيضًا في «باترسون»، بل يصير الفيلم فضاءً لتداوُل أفكار واستشهادات وصور لكتّاب وشعراء مثل كريستوفر مارلو، لورد بايرون، جون كيتس، جين أوستن، إدغار آلان بو، آرثر رامبو، إميلي ديكنسون، تشارلز بودلير، أوسكار وايلد، فرانز كافكا، مارك توين وصمويل بيكيت، وهو أمر حاصل أيضًا في فيلمه «العشّاق فقط يبقون أحياء».

أخيرًا، هل يُمكن القول إنّ تفصيلًا من كلّ ما ذكرناه يشكِّل قاعدة راسخة في أفلامه؟ الجواب هو قطعًا النفي، لأنّ سينما جارموش هي ضدّ كلّ قاعدة. لكن إلى أيّ جانب يمكن أن نلحق كلّ هذا الجمال في أعماله؟ الجميل في سينما جارموش أنّها ورشات مفتوحة بين الأدب والسينما والموسيقى، سينما تُعيد إلى لغةِ السينما قيمتها من دون أن يعني ذلك قطْع صلاتها بباقي الفنون. عبقريّته تكمن في قدرته على تطويع كلّ هذه الفنون لمصلحة الفيلم، وعظمته تكمن في مواجهته الدائمة ضدّ أيّ نظام يُهيمن على فكرهِ ويكبح جنونَه.

*كاتب وناقد سينمائي من المغرب

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.