ممّا لا شكّ فيه أنّ التطوّرَ العلميَّ والتكنولوجيَّ أوصلنا إلى عصر الفضاء واكتشاف الكَون، غير أنّ هناك في عالَمِنا الإسلاميّ مَن لا يزال يعيش خارج العصر وخارج العِلم والمنطق والتقدّم الذي لا يُنافي الدّين في شيء. فلقد ظَهَرَ في السنوات القليلة الماضية على مواقع التواصُل الاجتماعيّ وبعض أقنية التلفزة ما سُمّي بـ «بحث إسلاميّ» استعرَضه أحد مُقدّمي البرامج التلفزيونيّة، مُدّعيًا خلاله أنّ هناك في السماء أبوابًا محروسة لا يستطيع روّاد الفضاء الولوجَ بصواريخهم الفضائيّة إلّا عبرها. واستشهد ذلك «الباحث الإسلاميّ» بآياتٍ من القرآن الكريم كدلالةٍ على إعجازٍ علميّ لدعْم نظريّته الغريبة التي أثارت استهجانَ أهل العِلم في العالَم الإسلاميّ، وبخاصّة أنّ الباحث المقصود لديه خلفيّة علميّة.

يتساءل هذا «الباحث» عن السبب الذي يجعل العُلماء الروس يُطلقون مركباتِهم الفضائيّة من كازاخستان، وليس من موسكو، حيث مقرّ وكالة الفضاء الروسيّة؟ ويتساءل أيضًا لماذا يُطلِق العُلماءُ الأمريكيّون مركباتِهم إلى الفضاء من فلوريدا في الجنوب، وليس من نيويورك أو واشنطن دي. سي. حيث مقرّ وكالة ناسا؟ ولماذا بدَورهم يُطلِق العُلماء الأوروبيّون مسابيرَهم الفضائيّة من غويّانا الفرنسيّة على حدود البرازيل، وليس من باريس أو لندن أو برلين؟

بالطبع، وبالمنطق العلمي، ليس هناك من بوّابات في السماء تَلتزم وكالاتُ الفضاء بتوجيهِ صواريخِها للعبور خلالِها، من وإلى الفضاء... وكان الأجدر بذلك «الباحث» التعمُّق في الأسباب العلميّة لاختيار مواقع القواعد الفضائيّة بدلًا من أن «يورِّط» الآيات القرآنيّة لتَشهد على نظريّته القاصرة.


تتعدّد أنواع الصواريخ ومهامّها وأشكالها وأوزانها وطبيعة وقودها الدّافعة وقواعد إطلاقها. فهناك الصواريخ التي تُطلَق من كتف الجنود، وتلك التي تُطلَق من الرّاجمات من شاحنات او آليّات عسكريّة، وتلك التي تُطلَق من الطائرات، وتلك التي تُطلَق من على مَتن البوارج، وتلك التي تُطلَق من الغوّاصات تحت الماء.

أمّا الصواريخ الفضائيّة فتتراوح مهمّاتها بين وضْع الأقمار الصناعيّة أو التلسكوبات الفضائيّة في مَداراتها، أو نقْل روّاد الفضاء من وإلى المحطّات الفضائيّة، أو إيصال المسابير الفضائيّة إلى القمر أو المرّيخ أو غيرهما من كواكب المنظومة الشمسيّة... ولإطلاق مثل هذه الصواريخ، لا بدّ من قواعد متينة مخصَّصة وبنىً تحتيّة معقّدة وتجهيزاتٍ لوجستيّة عالية الدقّة، إضافة إلى سهولة الوصول إليها بحرًا وبرًّا وجوًّا، ووجوب تمتُّعها بأحوالٍ جويّة آمنة لأكثر وقتٍ مُمكن من السنة.

معايير اختيار الموانئ الفضائيّة

لا شكّ أنّ الجغرافيا الأرضيّة تَلعب دَوراً أساسيّاً في اختيار مواقع مثل تلك القواعد التي يُطلق عليها تسمية «الموانىء الفضائيّة». ولاختيار مواقع الموانئ الفضائيّة معايير وشروط عديدة ينبغي مُراعاتها، وأهمّها أربعة: الأوّل والأهمّ، هو الاستفادةُ القصوى من سرعةِ دَوران الأرض حول محورها القطبي. فإذا كانت كلّ المواقع على الأرض تَشترك بالسرعة الدورانيّة ذاتها للكوكب (دورة واحدة كلّ 24 ساعة)، إلّا أنّ السرعة الخطيّة تتعلّق بالموقع على سطح الأرض، وهي تتدرّج من صفر كلم في الساعة عند القطب، صعودًا إلى ألفٍ وستمئةٍ وخمسين كيلومترًا في الساعة عند خطّ الاستواء. وكلّما اقتربتْ نقطةُ إطلاقِ الصواريخ الفضائيّة من المنطقةِ الاستوائيّة، يربحُ الصاروخُ سرعةَ انطلاقٍ إضافيّة مجّانيّة تُساوي سرعةَ دَورانِ تلك النقطةِ مع الأرض، وهذا الأمر هو أكثر ما يحتاجُه الصاروخُ للتغلّبِ على جاذبيّة الأرض، الأقوى عند الانطلاقِ من سطحِها.

المعيار الثاني يتعلّق بالسلامة العامّة، وهو ضرورةُ وجودِ بحرٍ واسعٍ إلى شرقِ القاعدةِ الفضائيّة؛ فحيثما أنّ الكرةَ الأرضيّةَ تدور من الغرب نحو الشرق بعكس اتّجاهِ عقارب الساعة، تُطلَقُ المركباتُ الفضائيّة مزوّدةً بدفْعٍ أرضيٍّ إضافيّ نحو الشرق؛ لذلك يجب أن يُحسبَ حسابٌ لسقوط أجزاء الصواريخ التي استُنفِدَت وقودُها، بعد الدقائق الأولى لإطلاقها، بعيداً من المناطق الأرضيّة المأهولة. وكذلك، مع احتمال فَشَلِ الصاروخ في انطلاقه واختراقه الصعب للغلاف الجوّي الكثيف، يجب أن يُعمل على تجنُّب سقوط الصاروخ أو أجزائه المتشظّية في مساحةٍ مأهولة، درءًا لسقوط ضحايا بشريّة وأضرارٍ إضافيّة.. هذا إضافة إلى وجوب استعادة روّاد الفضاء حين عودتهم، عبر برْمجة سقوط كبسولتهم في المياه ليسهل إنقاذهم.

لذا، فإنّ اختيار الموانئ الفضائيّة على السواحل الشرقيّة للبحار والمُحيطات، هو أمر لا يُمكن القفْزُ فوقه، كونه يتعلّق بالسلامة العامّة للمناطق المأهولة، وسلامة روّاد الفضاء حين عودتهم إلى الأرض. معيارٌ ثالث يتعلّق بكيمياء الوقود الصاروخي، وصعوبة اشتعاله على حرارة باردة جدًّا، كتلك السائدة في سيبيريا أو موسكو أو برلين أو واشنطن أو باريس... وهذا الشرطُ الكيميائي يسهلُ تحقيقُه كلّما اقتربنا أكثر من المنطقة الاستوائيّة الدافئة.

وثمّة معيارٌ رابع، وهو اختيار المنطقة الأقلّ عرضةً للأعاصيرِ والمُناخِ الشديد التقلُّب. ومنطقة فلوريدا، مثلًا، حيث مركز كيندي الفضائي، تفتقر إلى الشروط المناخيّة. وهذا ما يتسبّب بإلغاء رحلاتٍ مقرَّرة في كثيرٍ من الأحيان وتأجيلها إلى وقتٍ آخر مقبول من حيث الطقس وسرعة الرياح.

نظراً إلى هذه الشروط جميعها، اختارتْ روسيا قاعدتَها الفضائيّة في بايكونور في كازاخستان، وليس في موسكو، كي تكون في أقرب نقطة تستطيع تدبُّرَها نحو الجنوب الأقرب إلى خطّ الاستواء والأكثر دفْئاً. وللأسبابِ عَيْنها، اختارتِ الولاياتُ المتّحدة قاعدتَيْها الفضائيّتَيْن «كايب كانافيرال» Cape Canaveral و«كيندي سبايس سنتر» Kennedy Space Center في فلوريدا في جنوب البلاد وليس في نيويورك، بالرّغم من أنّ هذا الخيار كان سيّئاً في ما يتعلّق بالأحوال الجويّة غير المستقرّة فوق تلك المنطقة.

وكذلك اختارَ الاتّحاد الأوروبي قاعدتَه الفضائيّة بعيدًا من أوروبا، في غويّانا الفرنسيّة على حدود البرازيل، وليس في باريس أو لندن أو برلين. كما اختارتِ اليابان قاعدتَها في تانِغاشيما على أحد سواحلها الشرقيّة، واختارت الهند كذلك قاعدتَها على أحد سواحلها الشرقيّة على المُحيط الهندي.

وإذا تأمَّلنا مليّاً خارطةَ العالَم، نرى أنّ أفضلَ موقعٍ لبناءِ قاعدةٍ فضائيّة على الأرض، هي على الساحل الجنوبي الشرقي للصومال.. على خطّ الاستواء تمامًا، حيث تتوافر كلّ الشروط المُناسبة لإقامة موانئ فضائيّة ولإطلاقٍ آمنٍ للصواريخ الفضائيّة في معظم أيّام السنة.

الموانئ الفضائيّة الأكثر شهرة

تُعتبر القواعدُ الفضائيّة (cosmodrome) بوّاباتنا إلى فضاء النجوم.. وتمثُّلًا بموانئ البوارج البحريّة والمطارات المدنيّة أو العسكريّة، تُستخدَم الموانئ الفضائيّة لإطلاق أو استقبال مركبات فضائيّة في مَداراتٍ حول الأرض أو في مساراتٍ بين الكواكب.

كان أوّل ميناء فضائي على الأرض هو قاعدة «بايكونور كوزمودروم» الروسيّة في كازاخستان، حيث أَطلقت منها وكالةُ الفضاء الروسيّة «روسكوزموس» أوّلَ قمرٍ صناعي (سبوتنيك 1) في العام 1957 وبات يوري غاغارين هو أوّل إنسان في تاريخ البشريّة يخرج إلى الفضاء الخارجي من تلك القاعدة في العام 1961. ثمّ أَنشأت الولايات المتّحدة الأمريكيّة مركزَ كيندي الفضائي ثمّ قاعدة «كايب كانافيرال» الفضائيّة في ولاية فلوريدا، وكانا في الأصل قواعد جويّة عسكريّة منذ العام 1949، وتمّ تحويلهما إلى قواعد فضائيّة في العام 1959.

وفي العام 1975 أُنشِئت وكالةُ الفضاء الأوروبيّة (ESA) European Space Agency وباتت تضمّ 22 دولة ومقرّها العامّ في العاصمة الفرنسيّة باريس. واختارتْ هذه الوكالةُ (إيسا) بناءَ مينائها الفضائي على الساحل الشرقي لغويّانا الفرنسيّة في أمريكا الجنوبيّة على بعد 5 درجات فقط شمالي خطّ الاستواء.

وفي العقود الأخيرة التحقتِ اليابان والهند والصين بركبِ الدول الفضائيّة، وباتَ لكلّ دولة من هذه الدول ميناؤها الفضائي ومشروعاتها الفضائيّة كذلك. ومع التطوّر المتزايد للرحلات الفضائيّة التجاريّة، مثل «سبايس إكس» SpaceX لإيلون ماسك، و«فيرجين غالاكتِك» Virgin Galactic للسير ريتشارد برانسون، لم تَعُد الموانئ الفضائيّة حكراً على الحكومات، بل دخلَ في إنشائها وتجهيزها القطاعُ الخاصّ والشركات التجاريّة. وسواء تعلّق الأمر بالأقمار الصناعيّة والصواريخ أم بالعدد المُتزايد من الرحلات الفضائيّة التي يَستثمرها القطاعُ الخاصّ، فإنّ هذا الانفتاح هو إلى ازديادٍ خلال السنوات المُقبلة.

وينبغي ألّا يغيب عن البال لدى الحديث عن الموانئ الفضائيّة، ذكر أنّ المحطّة الفضائيّة الدوليّة، هي أيضاً ميناء فضائي تهبط فيه المركبات الفضائيّة لتنقل إليها روّاد الفضاء، وتنطلق منها المركبات لتُعيد روّاداً آخرين إلى الأرض.

كما أنّ مشروع «أرتميس» الذي بدأت وكالة الفضاء الأمريكيّة «ناسا» بالإعداد له منذ العام 2017 بالاشتراك مع عدد من الدول المتطوّرة في مجال الفضاء، هو ميناء فضائي من المتوقّع أن تبدأ خطوات بنائه على القمر بحلول العام 2030.

تفاسير قاصرة للآيات القرآنيّة

للأسف، وعلى الرّغم من أنّ البشريّة تخطَّت ما يربو عن الخمسة آلاف سنة حضارة مدنيّة، وسلكتْ طريقَ العِلم، لا نزال نَسمع بين الحين والآخر في بلادنا العربيّة والإسلاميّة، مَن يُقحِمُ آياتِ القرآن الكريم في تفاسيرَ قاصرةٍ لأمورٍ علميّة لا يفهمونها، ولا ترتقي إلى قداسة الغايات الإلهيّة والقيَم السماويّة المُضمَرة في السُور والآيات.

ولا يحتاج الدّين الإسلامي الى إظهارِ مُعجزاتٍ من أيّ نَوعٍ كان لتبيان عظمته. فقد انتشرَ في مشارق الأرض ومَغاربها، ولا يزال على انتشاره حتّى اللّحظة، من دون الحاجة إلى «عجيبة» واحدة. فالنبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم لم يُحيي ميّتًا، ولا أَعاد البَصر إلى أعمى، ولم يحوِّل الماءَ إلى ذهب... لكنّه بالدعوةِ إلى القيَم الإنسانيّة السامية والأخلاق السويّة والعدالة بين البشر واحترام مُعتقدات أهل الكِتاب ممَّن سبقوا الإسلام، وبالمُمارسة التي تَنسجم مع المبادئ المُعلَنة... بهذا انتشرَ الإسلام ويستمرّ من دون الحاجة إلى عجيبة أو مُعجزة، ومن دون أن يُطلب من القرآن الكريم أن يتحوّل إلى كتابِ فيزياء وجيولوجيا وبيولوجيا و«حزازير» مُضْمَرَة.

والعلماء العمالقة في تاريخ الإسلام في كلّ فروع العلوم، من الخوارزمي والكاشي والخزاري في الرياضيّات، إلى الرازي في الفيزياء وعِلم الحيَل، إلى ابن سينا والرّازي والكاشي والزهراوي وابن الهيثم وابن رشد وابن البيطار في الطبّ العامّ والجراحة وطبّ العيون، الى جابر بن حيّان في الكيمياء، إلى الجزري في الميكانيكا والزراعة، إلى البيروني والفزاري وابن الشاطر في عِلم الفلك... كلّ هؤلاء العُلماء الذين أناروا مشعل الحضارة الإسلاميّة ونوّروا آسيا وأفريقيا وأوروبا بعلومهم وإنجازاتهم، لم يقلْ أيٌّ منهم أنّه استمدَّ معادلاته واكتشافاته من سورِ القرآن الكريم؛ والقرآن الكريم، كان ولا يزال، يدعو وبقوّة الى سبْرِ آفاق العِلم والمعرفة؛ وَرَدَ مثلاً في سورة طه: «وقل ربّي زدني علمًا». ومن الأحاديث النبويّة الشريفة وَرَدَ أنّ «حِبر العالِم أقدس من دمّ الشهيد».

فليتَ بعض الغيارى على الإسلام، يعي أبعادَ الغايات الإلهيّة من النصوص المقدّسة، ولا يورِّط آياتِ القرآن الكريم بما يعتقده هو أنّها «حزازير» علميّة وإعجاز علمي، يفسّره بحسب قدراته المحدودة في العِلم.

*ممثّل لبنان في الاتّحاد الفلكي الدولي

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.