صَرخَ الكاتبُ حسن. م. يوسف: «الشُّجاع لا ينتحر»؛ استهجانًا لانتحار بطل روايةِ (نهاية رجل شجاع) لحنّا مينه؛ فعزم حسن -وهو يُحوِّل الروايةَ إلى مسلسل- على إعادةِ تشكيل النهاية.

الرواية في الأصل تجعل البطلَ (مفيد الوحش) يقتل الرقيبَ زريق بالمسدس ثم ينتحر، أما المسلسل فقد أحيا شخصيةَ (الزلقوط) وأدخلها في صراع مع البطل؛ حين قام بابتزازه وأخذ الإتاوة منه، فما كانَ من مفيد الوحش -الذي صار بلا ساقين- إلا أن اشتبكَ مع الزلقوط، وسقطا معًا من الحافة إلى البحر. كل ذلك؛ لكي يتجنب معضلة أن ينتحر الشُجاع.

ما الذي جعلَ حسن يعتقد أنَّ الشُّجاع لا ينتحر؟ ماذا لو كان السؤال: «كيف ينتحر الشجاع»؟ بدلًا من الإجابة بالنفي قَطعًا على سؤال: «هل ينتحر الشُّجاع»؟ ولمَّا نقول (كيف) فيعني أنه قد ينتحر الإنسان ولكن بأسلوب الشُّجعان. وأظنُّ أنَّ السببَ في قول: «الشجاع لا ينتحر»؛ يعود لفهم صورة الشجاع وربطها -ضرورةً- بمواجهةِ الحياة المباشرة. وسأضرب مثالًا غريبًا نوعًا ما، يتعلق بعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، فقد جربتُ أن أقولَ لأحدهم: موتة عثمان هي «نهاية رجل شجاع»، فاستنكر القولَ، وأخذَ يُدبّج المدائح بموتة علي، على أساس أنَّ كلا الموتتين قتلٌ متعمّد، ولكنَّ عليًّا أقدمَ على الحياة، وعثمانَ أحجم عنها. ثم قلتُ له ولنفسي: ماذا لو كان عثمان ينظر لحيوات الناس وليس لحياته هو فحسب، وذلك لمَّا منع أصحابه من الدفاع عنه؛ حقنًا لدماء العرب؟ كيف سنفهم مواجهة عثمان للحياة؟ هل يعد منتحرًا بشجاعة؟ قال: لا أدري، وقلتُ: وأنا لا أدري، لكنَّ أفقَنا سيتطور لفهم معنى جديد للنهايات، وإرادة أصحابها.


العرب في أمر الشَّجاعة على مسارين: الأول يربط الشجاعةَ بالعلم، والثاني بالمعرفة، والمراد بذلك أنَّ العلم هو حدود ما يُعرف في اللحظة الحاضرة التي نواجه بها الحياة، ولتكن -مثلًا- معركة يدخلها الإنسان، ولا علم له بمآلات الأمور إلا (تكتيكات) انتصاره هو وجيشه في تلك اللحظة، وأما المعرفة فهي أن يسعى الإنسانُ لإدراك ما وراء إقدامه المباشر، وفي ضوئه يتحرك.

ومع تبنّي الأيديولوجيات في العقود الملتهبة بألسنةِ المُستعمِر، صار البطل الشجاع محصورًا في المسار الأول، ويرونه متمثلًا في القائد القوي المقدام، ذلك الذي رسَّخ مفهوم (الشُّجاع لا ينتحر) أي لا يُحجم عن معركة الحياة، ولكنَّ الإخفاق الذي مُني به (جيش العرب)! في حزيران 67م، شتَّت المعنى وجعله مضطربًا، وأعني بالتشتت صناعة المذاهب المختلفة النابعة من جواب: «لماذا وقعت الهزيمة مع كل هذه الشجاعة والإقدام؟» وقد كانت هذه المذاهب -مع اختلافها الجذري- تُحاول أن تُجيبَ عن العلاقةِ بين الشَّجاعة والهزيمة، ليجد كلُّ مذهبٍ طريقَه إلى معادلةٍ تجمع الشجاعةَ والإحجام في زمنٍ محدد، حتى تتوافر له سُبل النجاح والظفر فيجمع الشجاعة والإقدام، مما يعني أنَّ الانتحار (الإحجام عن الحياة بوعي) في هذه المذاهب صار مؤقتًا، ومن ثمَّ فإنَّ الانتحار بمعنى قتل النفس هو هزيمة كبرى، لا يُمكِن للشُجاع أن يُقدم عليها.

إلا أنَّ استمرار هذه المذاهب في مياهها الآسنة، جعلها تأكل نفسَها -كالنار التي لم تجد ما تأكله- فتحرَّرَ الفردُ -المهموم بالكتابة- من هيمنة العقلية الحزبية، كما نجد ذلك عند حنّا مينه حين خرج من عبودية القيد الحزبي إلى حريةِ الإبداع، وهذا التحرر الفرديُّ ارتبطَ بمذاهب أخرى وفدت إلى العرب، لكنَّها بلباس وجودي، والوجودية وجوديات، وقد أثَّرت وجودية سارتر على الذهنيةِ الكتابيّة العربية -آنذاك- وهي تبحث عن خلاص من مأزقها، وسارتر كان يُؤكّد على حرية الإنسان ومسؤوليته، بوصفه كيانًا يخلق معانيه الخاصة بالاختيار والفعل، ولأنَّ الوجوديةَ تُعوّل على أنَّ الماهية تُكتَسب بالموت، وفي الوقت نفسه لا نسق فلسفي لها، يجمع شتاتها بإطارٍ كالمذاهب الشمولية، فإنَّ حنا مينه -الوجودي الذي قال «لو عرفتُ من أنا لصرتُ حكيما»- وضع له خطًا يجمع بين رؤيتين وجوديتين، الأولى تَرى الانتحار مُعبرًا عن الحرية المطلقة في الاختيار، والثانية ترى أنه عبثٌ يمنع المستقبل، لهذا لم يَقل: «إنَّ الشجاع ينتحر»، بل جعله ينتحر فعليًا في واقع الرواية، بعد أن أعطاه خيارًا وجوديًا للانتحار، وكان حنَّا يُصَور في أول أمره الشخصيات على أنَّهم بؤساء يَشحذون -بالخنوع- العطفَ، ثم تنبّه حنّا إلى بؤسِه هو بهذا التصور، فدخل إلى دهاليز وجودية اقتبسها من واقعِ الحياة كما هي في أماكنها المجهولة، يقول عن هذه التجربة واصفًا الشخصيات: «فقراء ولكن شُجعان»، وتركيز حنّا على لفظِ (شجعان) لم يكن إلا الدخول في معنى يجمع اقتحام المجهول وتعدد وجوه الحياة، أي أنَّ الحياةَ تحتمل مسارات متعددة لمواجهتها، كما هي حياة مفيد الوحش في نهاية رجل شجاع، التي تقع في آخر مراحل حنّا مينه الروائية؛ إذ قد قسَّم مراحل كتابته إلى ثلاث: الأولى مرحلة الواقعية وفيها رواية (المصابيح الزرق)، والثانية الواقعية الرومانتيكية وفيها رواية (الشراع والعاصفة)، والثالثة الأسطورة وتعدد المستويات والسخرية وفيها نهاية رجل شجاع، وهذه المرحلة الثالثة تميّزت فيها الفرديّة، ولكن بعقلية (نَفسجَمعي) ينتمي لها حنَّا؛ خلصته من عبء الاشتراكية الواقعية، وجعلته يختار لمفيد الوحش انتحارًا أنانيًا وإيثاريًا في آنٍ واحد؛ ويعني ذلك أن يتخلّص الشجاع من حياته تقديرًا لنفسه وإبرازًا لهويتها الأخيرة في طرقها المسدودة، وإخلاصًا للمجتمع على الشرور التي اقترفها رغمًا عنه، وفي الوقت نفسه يتخلّص من صورةِ البطل التي خلقتها الأسطورة داخله.