مواصلة للتعديلات المتلاحقة التي تجريها السعودية على منظومتها التشريعية، وسيرا على طريقها الذي اختطته وتحقيقا للأهداف التي تسعى إليها لترقية بيئة العمل، وإيجاد مناخات مواتية تساعد الموظفين والعمال على الإنجاز، صدرت موافقة مجلس الوزراء خلال الأيام الماضية على إقرار تعديلات واسعة على نظام العمل، حيث تم تعديل (38) مادة، وحذف سبع مواد وإضافة مادتين جديدتين للنظام.

هذه التعديلات هدفت بصورة أساسية لترقية وتحسين بيئة العمل، وضمان حقوق أطراف العلاقة التعاقدية كافة، استنادا على قاعدة «لا ضرر ولا ضرار». حيث نصت على إلزامية توثيق العقود، وتحديد فترة التجربة، وتوضيح آلية فترة الإشعار لإنهاء العقد غير محدد المدة من الطرفين، وإضافة إجازة لمدة 3 أيام في حالة وفاة الأخ أو الأخت، ورفع إجازة الوضع للمرأة العاملة إلى 12 أسبوعا، وضمان حقوق المتدرب وصاحب العمل وتحديد سياسات التدريب في العقود. ووضع تعريف وإجراء محدد ومنضبط للاستقالة ضمانًا لعدم التعسف في استعمالها، وعززت من حقوق العمال في قصر فترة الإشعار على ثلاثين يومًا.

وتشير هذه التعديلات الواسعة التي تأتي ضمن المراجعة المستمرة للأنظمة والتشريعات إلى أن الجهات المختصة حريصة على مواكبة مستجدات سوق العمل في العالم، وعلى تلبية متطلبات العمالة الوطنية والوافدة بما يتوافق مع التطوّر الذي تعيشه المملكة على الأصعدة كافة، حيث خضعت لعدة اعتبارات، واستندت على دراسات معيارية عالمية، واستصحبت أنظمة العمل في دول عديدة على المستويين الإقليمي والدولي.


كما شاركت عدة جهات مختصة في مراجعة التعديلات منها اللجان العمالية، واتحاد الغرف التجارية، وخبراء الموارد البشرية ومنشآت القطاع الخاص، وجهات حكومية ذات علاقة، إضافة لاستطلاع رأي العموم حيث أدلى ما يزيد على 1300 شخص بمرئياتهم بعد عرض هذه التعديلات على منصة «استطلاع».

أما الهدف الرئيس الذي ركّز عليه المشرّع فهو استقرار وتحسين سوق العمل، وتلبية احتياجات القطاع الخاص، وحفظ حقوق جميع الأطراف، وتفعيل عنصر التدريب ورفع المهارات، واستقرار العلاقة التعاقدية. كما تظل هذه الإصلاحات ضرورية لاستيفاء المتطلبات التي ترتبت على انضمام المملكة للعديد من الاتفاقيات والمواثيق والعهود الدولية ذات الصلة التي صادقت عليها.

هذه الجهود سوف تسهم دون شك في استقطاب وجذب كفاءات عالمية وكوادر مؤهلة ذات مهارات استثنائية تضع بصمتها في المشهد المحلي وتدعم التطور في المملكة. كذلك لا يخفى علينا أن وجود بيئة عمل جاذبة تتمتع بالشفافية والموثوقية وتوفر الأيدي العاملة المؤهلة هي من أكثر المتطلّبات الضرورية لاجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية وتفعيل الاستثمار بما يؤدي إلى زيادة القوة الشرائية.

الجانب الأكثر أهمية في هذه التعديلات هو أنها تتناغم مع التوجه الدولي نحو كفالة وضمان حقوق الإنسان الأساسية، فخلال الأعوام القليلة الماضية ركزت الجهود السعودية لتحديث المنظومة التشريعية على التجاوب والتفاعل الإيجابي مع منظمات المجتمع الدولي، ويبدو ذلك في إصدار 60 قرارًا إصلاحيًا تناولت حقوق الإنسان، وهو ما يؤكد الجدية التي تتعامل بها الرياض مع هذا الملف.

ومع أن السلسلة الأخيرة من التعديلات تبقى هي الأكثر أهمية نسبة لشموليتها، فإن مساعي التطوير والتحسين في قوانين العمل شهدت خلال السنوات الماضية تعديلات عديدة لتهيئة بيئة أفضل للأيدي العاملة، سواء للعمالة الوطنية أو الوافدة وضمان حقوقها.

ففي المسار الأول اهتمت المملكة بإيجاد فرص العمل للشباب وترقية مهاراتهم وزيادة معارفهم وقدراتهم عبر برامج عملية راعت كافة المتغيرات وتنوعت بين الدراسة في أرقى جامعات العالم وتوفير التدريب المتطوّر الذي يعينهم على المنافسة في سوق العمل.

كما أولت القيادة الرشيدة اهتماما كبيرا بإتاحة الفرصة أمام المرأة للانطلاق في مجال العمل والإنتاج، ورفعت القيود المصطنعة التي كانت تحول دون ذلك، إضافة إلى دعم القطاع غير الربحي لتوليد فرص مستدامة، وتطوير هذا القطاع الذي هو على جانب كبير من الأهمية للاضطلاع بالدور المطلوب منه.

أما على صعيد العمالة الوافدة فقد كانت التعديلات أكبر أثرا وتنوعا، حيث شملت تعديل نظام الكفالة لإضفاء المزيد من الشفافية وتحسين العلاقة التعاقدية، وتعزيز الممارسات الأخلاقية للعمل، عبر إتاحة المزيد من المرونة للعمّال للتنقل وفق اشتراطات معينة وضوابط محددة بحيث تتيح للعامل الحصول على حقوقه والبحث عن فرصة عمل أفضل إذا امتنع كفيله عن تسديد رواتبه لثلاثة أشهر، أو أخفق في تجديد إقامته ورخصة العمل، أو لم يكن هناك عقد ملزم بين الطرفين، أو لرغبة العامل في الاستقالة وغير ذلك من الحالات والظروف التي أوضحها النظام بمنتهى الشفافية.

كذلك ركزت التعديلات على إنصاف العمالة المنزلية؛ حيث تمت الاستعانة بأساليب التقنية الحديثة بالقدر الذي يسهم في إيجاد سوق عمل مرنة وشفافة وجاذبة، عبر تقديم خدمات نوعية في تنظيم كافة مراحل عملية الاستقدام منذ استخراج التأشيرات والتعاقد والدفع الإلكتروني، وحوكمة وتنظيم آلية التعاقد والتوظيف. ليس ذلك فحسب، بل إن زيادة الشفافية شملت أيضا الإجراءات التي تتم في الدول التي ترسل العمالة المنزلية للمملكة لضمان عدم تعرض تلك العمالة للاستغلال في أي من مراحل العملية التعاقدية.

وقد حصدت المملكة ثمار هذه الجهود المتواصلة، حيث تم اختيارها لعضوية مجلس إدارة منظمة العمل الدولية، وهو ما يمثّل شهادة عالمية على جدية الإصلاحات الحقيقية التي تبذلها في هذا الجانب، واعترافا بجودة قوانينها ومطابقتها للمعايير الدولية المرعية.

هذا الاختيار الذي يسري خلال الدورة الحالية لمجلس إدارة المنظمة الدولية (2021 - 2024) هو ترجمة فعلية لتوجه القيادة الرشيدة لضمان العدالة في التعامل بين صاحب العمل والعمال، وحفظ حقوق الطرفين. وقد شهدنا خلال العهد الزاهر الذي نعيشه جهودا متواصلة في هذا المجال، لا سيما بعد إقرار رؤية المملكة 2030 التي هدفت إلى إضفاء المزيد من الجاذبية على سوق العمل المحلي، لاستقطاب رؤوس الأموال الأجنبية وتفعيل الاستثمار.