كما أشرنا في مقالات سابقة حول دوافع العباسيين لترجمة كتب اليونان والهند، ولماذا تأسس مشروع الترجمة الضخم وبهذا القدر من الشمولية. الترجمة تحمل دوافع سياسية في المقام الأول، هي جزء من حرب باردة بين العرب وثقافتهم وبين الشعوب الوافدة للمجتمع الإسلامي بعد الفتح الإسلامي التي ظلت تتعصب لثقافتها القديمة وتحتفظ ببقايا من معتقداتها الدينية وتسعى لتكييفها مع الدين الجديد. ونحن نعرف أن المعتقدات الدينية تتحول أحيانا وتحاول التكيف مع أي ظروف مستجدة ولكنها لا تموت بشكل مفاجئ.

هذا يفسر لنا رغبة رجال السياسة بالتعرف على معتقدات الشعوب الوافدة وكيف يمكن تحييدها وخلق مسافة آمنة بين تعاليم الدين الإسلامي وبين المعتقدات الوثنية التي تقاوم الموت ويعيش أنصارها حالة يأس وقنوط من المصير المتوقع لعقيدة دينية تواجه ثقافة أقوى وأكثر هيمنة. عقيدة (تناسخ الأرواح) مثال على العقائد الوافدة للمجتمع العربي، وهي من العقائد المركزية في الثقافتين اليونانية والهندية. ويتبناها شخصية مرموقة مثل أبي بكر الرازي الذي يتمتع بصورة نمطية تربطه بالطب والعلوم المتقدمة، وتضعه في خانة الشخصيات التنويرية في التراث الإسلامي. ويعود الفضل للاستشراق والمستشرقين في صناعة هذه الهالة وتأثيرها حول شخصية الرازي.

ماذا يعني أن نترك حياة ونذهب إلى حياة أخرى، وهو عنوان لعقيدة تناسخ الأرواح التي آمن بها الرازي، ولم تكن عقيدة حكرا على الثقافة الهندوسية، ولكنها من العقائد المحورية في التراث اليوناني كذلك. من هنا نتبين الدافع عند السياسيين العرب في التعرف على عقائد اليونان من بوابة الترجمة. وتشير فكرة تناسخ الأرواح إلى أن النفس أو الروح تبدأ حياة جديدة بعد الموت البيولوجي في جسد جديد قد يكون بشرا أو حيوانا. قد تأخذ الروح شكل إنسان أو حيوان أو نبات وتتحدد نوعية الحيوان ومدى خسته اعتمادا على تاريخ الروح في الحياة السابقة.


تسللت هذه العقيدة للمجتمع العربي قبل مشروع الترجمة، ولا يمكن للرازي أن يؤمن بمثل هذه الفكرة عبر قراءة تراث أرسطو وأفلاطون. فهي ليست عقيدة طارئة بل موجودة مسبقا وراسخة عبر القرون، وكتب الفلسفة اليونانية المترجمة تمثل مرجعية دينية لها. عاشت فكرة تناسخ الأرواح حالة من التضاد مع كل الأديان السماوية وعلى رأسها الإسلام الذي يرفض رفضا قاطعا فكرة التناسخ، فهي ضد أبسط عقائده التي تؤكد على محدودية حياة الإنسان، وأنه لا توجد إلا ولادة واحدة في الحياة الدنيا. ما يعني أن فكرة التناسخ لا يمكن لها التكيف والتعايش في المجتمع الإسلامي، وهذا يفسر حالة الصراع العقائدي المحموم في العصر العباسي وما بعده.

أتباع الأديان والمعتقدات السابقة للإسلام لم يتنازلوا عن ثقافتهم دون مقاومة، ولم يرفعوا راية الاستسلام دون تسجيل موقف أمام الثقافة العربية المهيمنة، والحركات الشعوبية في العصر العباسي شكل من أشكال المقاومة الثقافية التي استطاعت الوصول إلى مواقع صنع القرار السياسي والتمكن من مفاصل الدولة. ونأخذ المعتزلة في زمن المأمون كمثال للدولة العميقة أو الدولة داخل الدولة، حيث أخذ الصراع السياسي طابعا عقائديا وصل مستوى التنكيل بالخصوم وإقصائهم من المشهد السياسي بالنفي والسجن.

انتشار عقيدة تناسخ الأرواح في المجتمع الإسلامي وإن كان محدودا، وإيمان شخصية مرموقة كالرازي بمثل هذه العقيدة، له دلالات تاريخية وثقافية مختلفة، فهو يميط اللثام عن حقيقة حضور الفلسفة اليونانية في المجتمع العربي، ويكشف الغطاء عن الأصل الهندوسي للفلسفة اليونانية. والأهم من ذلك أن حضور الثقافة اليونانية في المجتمع العربي وتحديدا بين الوافدين الجدد، كان حضورا دينيا داخل سياق متشعب ومعقد من العقائد والأساطير القديمة.