تعتزم إحدى محطات الحوار الفضائية الشهيرة إطلاق حلقات نقاش في المستقبل المنظور تحت عنوان (مواقف الإمام علي بن أبي طالب وولديه الحسن والحسين رضي الله عنهم جميعاً من المسائل الكبرى في الخلاف بين السنة وبين الشيعة). وبالطبع تشير القناة في حملتها الدعائية إلى الهدف في التقريب بين أتباع المذهبين رغم براهين الحوارات الطويلة فيما سبق من أن الخلاصة في نهاية الأمر لم تضف على المشهد إلا مزيداً من تعميق الخلافات وإثارة بواطن أسئلة الفرقة. وبقدر ما كان هذا الدين العظيم ضحية للمذهبية، بقدر ما كان أكثر من ذلك ضحية للحوارات والأدبيات الهائلة التي قالها أو كتبها الفرقاء حول هذه الفرق والملل والمذاهب. أنا مؤمن أن هذا الدين العظيم كان أو سيكون أكثر وحدة واتحاداً لو أنه سلم ما لا يقل عن نصف الأحبار التي كتبت من أهله له أو نصف الأخبار التي لاكوه بها في منابرهم ومنتدياتهم المختلفة.
في العنوان بعاليه ما يمكن وصفه بأبسط قواعد الإخلال بمنهج التحليل السياسي وأعتقد أن طرح مثل هذه القضايا والأسئلة ما وضع عالمنا الإسلامي في دائرة رجعية متخلفة بمقاربات الزمن:
أولاً: فإن طرح مثل هذه القضايا والعناوين إنما تنطلق من تصورات تحليلية خاطئة وساذجة تضع مثل هذه الرموز الكبار وكأنها معنا اليوم، أو كأنهم، رضي الله عنهم، مجرد رموز سياسية حية تشبه رموز سياستنا المعاصرة وتعلن مواقفها على نفس الشكل والأنموذج الذي نعبر فيه اليوم في فرقتنا عن هذه الاصطفافات. نحن نأخذهم بهذا الشكل من المظلة الكبرى التي كانوا فيها أئمة ورموزاً للمجموع إلى فرقاء نتجاذبهم فيما بيننا البين. وأبلغ من هذا فنحن نعلم أن هذه الرموز الثلاثة من عظماء هذه الأمة لا دخل لهم بشيء من فروقات المذهبين ولا علاقة لهم في المطلق بالتدرج الزمني التاريخي الذي نشأت فيه هذه الملل والمذاهب. نحن نعلم أن اختراع – السنة – كمذهب جاء بعد ظهور – التشيع – كمذهب مقابل وكلا اللفظين كثافة وشيوعاً وانتشاراً كانا من إفرازات عقود وقرون بعد رحيل هذه الرموز: نحن بالتالي نخضع مواقفهم تصوراً على ما كتب عنهم من بعد بينما الصحيح أن هذه الرموز الثلاثة العظماء لأموات لهم من مفاهيمنا التبعية لمصطلحات الحاكمية أو المذهبية. نحن، بالاستعارة والمجاز، نسحب هؤلاء الكرام من قبورهم وكأنهم ضيوفنا اليوم في حوارات المنابر والفضائيات وهم الأبرياء الأنقياء الذين جمعت مواقفهم لحمة هذه الأمة التي توزعناها من بعدهم عطفاً على ما كذبناه عليهم من مواقف لا علاقة لهم بها إلا بالقياسات الخاطئة أو الاجتهادات التصورية. كل تاريخهم، رضي الله عنهم، مجرد كتاب واحد متحد ولكننا من بعدهم أحلنا كل صفحة واحدة من هذا الكتاب الأبيض إلى كتاب كامل مستقل.
ثانياً، فإن طرح مثل هذه القضايا والعناوين بعد رحيل هذه الرموز بألف وأربعمئة عام إنما ينم عن جهل بصيرورة التاريخ وحقائق الزمن. هذا الدين العظيم أعطى لأمته الطريق والمنهج ولكنه لم يطلب من أتباعه أن يكونوا أسرى لخلاف مفتعل مات منذ مئات السنين. لا توجد أمة على وجه الأرض تعيش اليوم لتحيي كل ما فات ومات ولا توجد أمة مثلنا على وجه الأرض تعيش هذا الجدل البيزنطي في (مواقف) فرقاء من بطن التاريخ السحيق وما الذي سنخرج به في عالم اليوم ومواقف العصر من محددات مواقف مثل هؤلاء الذين رحلوا منذ، مرة أخرى، 1400 سنة. هو بالضبط مثل أن تشعل أوروبا الحديثة مواقف – الحواريين – من بعد المسيح أو تجادل حول الإسكندرين الأكبر والأصغر لتبني حولهما رؤية الشكل السياسي المعاصر.
وخذ بالبرهان دلالات الحوار المنتظر القادم وأدلته وماذا ستكون المرجعية؟ سيعود هؤلاء الفرقاء على المنبر الفضائي إلى كتب التاريخ التي سطرها العصر الوسيط وسيعودون بالطبع إلى آراء المؤرخين من مئات الكتب الصفراء التي كذبت على تاريخنا وعلى تاريخ الرموز الأول من صدر هذا الدين العظيم. ستكتشف مثلاً أن آخر الكتب إصداراً حول هذا الجدل البيزنطي ليس إلا الكتاب الأخير "هل كان علي ـ كرم الله وجهه ـ شيعياً أم سنياً" بكل ما في هذه الجملة من تخرصات وتزوير على هذا الإمام الخليفة الراشد، البريء من كل تصور أو موقف في خلافاتنا العقيمة من حوله. ستكتشف أن كل كتاب من معظم كتب تاريخنا منطلق من توجه أيديولوجي وفلسفي وأن لكل قصة من رواياتنا التاريخية في بطون هذه الكتب روايتين متناقضتين وكل رواية تدحض المقابلة بالشواهد والبراهين. كل أو سواد ما نقرؤه اليوم من تاريخنا تزوير وتحريف. تضخيم لمواقف بسيطة ونفخ في حوادث أبسط. كتاب واحد أحلناه إلى مكتبة ضخمة.