هذا أسبوع حاسم لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، وأهم المؤشرات أن واشنطن تبذل جهداً وتريد «صفقة» لاستعادة الرهائن الأمريكيين قبل الانتخابات الرئاسية، وتريد لجم رد إيران و«حزبها» اللبناني على الاغتيالات لتجنّب حرب واسعة تدرك أن بنيامين نتنياهو يدفع إليها آملاً في توريط الولايات المتحدة فيها. عدا الاتصالات الدبلوماسية والبيانات المشتركة لدول أوروبية، استحثت واشنطن مبعوثيها برت ماكغورك وآموس هوكشتاين والوزير أنتوني بلينكن ووزراء دول حليفة لمواكبتها، وأبقت الخط مفتوحاً بين وزيري الدفاع الأمريكي والإسرائيلي، فضلاً عن القنوات العديدة مع طهران، معبرة بطرائق مختلفة عن أنها تريد اتفاقاً الآن ولو من دون إنهاء الحرب في غزة. وفي السياق دخلت أيضاً تسريبات تشير إلى تطابق التوجهات والتقديرات بين الإدارة الأمريكية والمؤسسة الأمنية (لا السياسية) الإسرائيلية، ومنها مثلاً أن العمليات العسكرية في غزة «انتهت»، وأن الطريقة الوحيدة لاستعادة الرهائن «أحياء» هي التفاوض. كالعادة يجري التعامل مع مفاوضات الهدنة بحذر، حتى من جانب المتفائلين في واشنطن، فهؤلاء يراقبون أداء نتنياهو وشروطه ولن يصدقوا أن اتفاقاً وُلد إلا متى رأوا التوقيع عليه، كما حصل في الهدنة اليتيمة أواخر نوفمبر الماضي. وإذا اتُّفق على وقف إطلاق النار في غزّة يُفترض أن يسري على المواجهة المتصاعدة في جنوب لبنان، وبتزامنٍ قد تلتزمه إسرائيل أو لا تلتزمه وقد تستبقه بسلسلة مجازر كما تفعل في غزة يومياً وكذلك في بلدات لبنانية. لكن يُفترض أيضاً، بحسب ما تروّجه مصادر واشنطن، أن تلغي الهدنة المرتقبة الردّ على الاغتيالات، كأن تعتبر طهران و«حزبها» اغتيال إسماعيل هنية وفؤاد شكر «تضحية» ثمينة لا يمكن أن تُقابل بمجرد وقف إطلاق النار، بل بإنهاء الحرب. وكانت طهران طالبت بذلك في كل محطات الحرب، وفي كل الاتصالات مع واشنطن، وبالأخص عندما دُعيت إلى دعم «حل دبلوماسي» في جنوب لبنان أو إلى التدخل لوقف هجمات حوثيي اليمن على السفن التجارية، لكن الأمريكيين لم يعملوا جدياً وقتئذ على هدنة لأن الإسرائيليين طلبوا مزيداً الوقت لعملياتهم العسكرية.

كانت المفاوضات بدأت عملياً مطلع هذه السنة، وفي الشهر الثامن اليوم باتت تُوصف بأنها «واعدة»، حتى بلسان جون كيربي، أكثر الناطقين الأمريكيين تبريراً لجرائم إسرائيل، الذي عدّد ما يريد البيت الأبيض رؤيته «في أقرب وقت ممكن»: «الرهائن وقد تم الإفراج عنهم، المساعدات للمدنيين الفلسطينيين في غزة، الأمن لإسرائيل، وتوترات أقل في المنطقة»... ماذا عن «الأمن للفلسطينيين» في غزة كما في الضفة الغربية؟ لا شيء طبعاً، لا أمن لهم ولا أمان، وهذا ما كانت عليه الحال منذ بداية الصراع قبل سبعة عقود ثم بعد ترسيخ الاحتلال. وماذا عن المجازر المتعمدة «للضغط على حماس»، ماذا عن التجويع المنهجي وعن الاضطهاد الوحشي للأسرى الفلسطينيين وعن الاغتيالات، فهل شكلت وتشكل ظروفاً ملائمة للتفاوض الحالي ولإنجاحه؟ للمرة الأولى ورد تحذير أمريكي لـ «متطرفين» قد يعملون على تقويض التوصل إلى وقف إطلاق النار، لكنه صيغ بتعميم حذر لئلا يُفهم أنه موجه تحديداً إلى نتنياهو وزمرة المتطرفين المهووسين في الحكومة، فالمتطرفون المقصودون قد يكونون في الطرف الآخر، إيران و«محورها».

عشية بدء المفاوضات في الدوحة كانت واشنطن ضاعفت ترسانتها العسكرية وجندت الحلفاء والأصدقاء وقلصت إلى حدٍّ كبير احتمالات الانتقال إلى حرب «كبرى» أو «شاملة» أو «إقليمية» وطرحت البديل: وقف إطلاق النار وصفقة تبادل للأسرى. وبذلك وُضعت إيران، التي دشّنت لتوّها عهداً رئاسياً جديداً، أمام خيار المواجهة مع «تحالف غربي للدفاع عن إسرائيل»، أو القبول بتسوية تتمثل بمفاوضات الهدنة وتجاوز الانتقام لاغتيال هنية وانتهاك سيادتها. لا تزال إيران و«حزبها» اللبناني وميليشياتها العراقية والحوثية تفصل الرد على الاغتيالات، بأمر معلن من المرشد/ الولي الفقيه، عن نتائج التفاوض على الهدنة، لكن هذا الفصل إعلامي فحسب، لأن طهران ليست مراقبة للمفاوضات حالياً بل منخرطة فيها من خلال اتصالات قطرية مبرمجة تبلغها بمجريات التفاوض. وبعدما قالت طهران إنها تقبل ما تقبل به «حماس» فإذا بـ«حماس» تختار (ربما بطلب إيراني) ألا تشارك، وبالتالي يكون يحيى السنوار قد فوض أمر التفاوض إلى إيران وسيقبل ما تقبل به. عدا أن هذا التفويض غير المعلن يضع إيران افتراضياً على الطاولة، فإنه لن يلغي الحاجة إلى وجود «حماس» لدى البحث في التفاصيل، لكنه قد يختصر الوقت أمام المفاوضين والوسطاء.


لكن، ماذا عن نتنياهو وشروطه «البلا نهاية» حتى تلك التي لا توافقه عليه مؤسستا الجيش والأمن، وهل أصبح جاهزاً للخروج من حساباته السياسية الشخصية، وهل يستطيع إقناع حليفيه سموتريتش وبن غفير أو حتى التخلص من «الكاهانية» السياسية وفقاً لما دعا إليه رئيس الدولة إسحق هرتسوج؟ كل ذلك ليس واضحاً، لكن نتنياهو أصبح محاصراً داخلياً بمسألة الرهائن وخارجياً بالإرادة التي تظهرها واشنطن، إذ لا يمكنه أن يواصل تحدي رئيس أمريكي قدّم لإسرائيل كل هذا الدعم لقاء وقف لإطلاق النار، ولا يمكنه الاستمرار في حرب يعرف أنها أضعفت «حماس» وإنْ لم تمنحه «صورة النصر» التي تمناها بل يعرف خصوصاً أن حرباً إقليمية ضد إيران لا شعبية لها حتى في الكونجرس المصفق له. تبقى لنتنياهو أسلحة كثيرة لتحصين تعنته. فمن جهة، هناك الجيش الذي يحتل قطاع غزة ويريد إبقاءه فيه لأهداف «إستراتيجية» عدة ليس أقلها تهجير الفلسطينيين أو ما أمكن منهم لإعادة الاستيطان إلى القطاع (لذلك الإصرار على البقاء في محوري نتساريم وفيلادلفيا)، ومن جهة أخرى مواصلة التوسع في الاستيطان وضم مناطق عديدة في الضفة الغربية وترحيل الفلسطينيين منها، وفقاً لـ«صفقة القرن» سيئة الذكر. وهذا يعيد إلى السلاح السري/ العلني لنتنياهو في رهانه على عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، وكأن التدمير المنهجي لقطاع غزة كان مبرمجاً لتحقيق أحلام جاريد كوشنير (صهر ترمب) بتحويل القطاع إلى منطقة منتجعات سياحية.

* ينشر بالتزامن مع موقع«النهار العربي»