وصفَ أرسطو استمتاعَ القرّاء واهتمامهم بقصص الرعب والمسرحيّات التي تقدِّم أحداثَ العنف بأنّه جزء من التنفيس عن مشاعرهم السلبيّة. وقد عشقَ البشرُ على مرّ الزمن القصصَ والحكاياتِ المُخيفة حول الجنّ والأشباح والكائنات الأسطوريّة التي يرويها الكبار للصغار، وتنتهي بهزيمة الشرّ وانتصار الخير.

شهدَ العام 2023 إنتاجَ العديد من الأفلام التي تُعَدّ استكمالاً لسلسلة أفلام رعب شهيرة، ومنها الجزء السادس لفيلم «الصرخة Scream»، وفيلم «عودة الميّت الشرّير Evil Dead Rise»، فضلاً عن أفلامٍ مثل «طرد الأرواح الشرّيرة من البابا The Pope’s Exorcist»، و»رينفيلد» للنجم العالمي نيكولاس كيدج الذي يجسِّد فيه شخصيّة دراكولا، كما تمَّ الإعلان عن إصدار الجزء العاشر لفيلم «المنشارSaw «.

تطوَّر مفهوم ثقافة الرعب عبر الزّمن، واتّسعت دائرته لتَنتقل إلى السينما والتلفزيون، وتصل إلى كلّ منزل من دونما خيارٍ أو استئذان، وذلك عبر المواقع الإلكترونيّة والألعاب المختلفة. والنتيجة كانت انتشار أفلام الرعب التي تُمثِّل أحد أكثر أنواع الأفلام شعبيّةً في عالَم السينما، فهي الفَزع في نفوس المشاهدين وتُعتبر تجربة مُثيرة ومخيفة في الوقت ذاته؛ لذلك يحرص الكثيرون على البحث عن أفضل أفلام الرعب لمشاهدتها والاستمتاع بها. وقد صار هذا الإنتاج المخيف عابراً لحدود الدول، ومُتداوَلاً في جميع لغات العالَم، وباتت لقصص الرعب مكانة كبرى عند غالبيّة القرّاء، حتّى لو لم يكُن هناك من تفسيرٍ لانجذابهم إليها، لأنّها ليست سوى انعكاسٍ لمخاوف الأفراد والمُجتمعات.


البدايات الأولى والتطوُّر

يُعَدّ الشاعر والناقد الأميركي الشهير إدجار آلان بو (1809 - 1849) أشهر مؤلِّف لروايات الرعب خلال القرن الثامن عشر، والأب الروحي لصناعة سينما الرعب.. ولا تزال مؤلّفاته حتّى اليوم مصدرَ إلهامٍ لمُنتجي هذه النوعيّة من الأفلام، الأمر الذي يؤكّد أنّه، وعلى الرّغم من اختلاف الثقافات الإنسانيّة وتنوّعها، يظلّ الخوفُ القاسمَ المُشترَك الذي يَجمع بين البشر. واستناداً إلى هذا الفَهْم، جسَّدت البداياتُ الأولى لصناعة سينما الرعب الشخصيّات التي تناولها المخيال الشعبي في عصورٍ سابقة مثل الوحوش والأشباح والرجال الذئاب ومصّاصي الدماء، وتواصَل هذا الاتّجاه حتّى السبعينيّات من القرن الماضي ليفتحَ بعدها البابَ أمام الأفلام الأكثر وحشيّةً ودمويّةً وإثارةً وتشويقاً بعدما تمَّ المزْجُ بين قصص الخيال العلمي والرعب.

فبدايةً من العام 1896، ظهرَ فيلم «قصر الشيطان Le Manoir du Diable» للمُخرج الفرنسي جورج ميليس، وهو أوّل فيلم رعب في التاريخ، وكان من الأفلام القصيرة الصامتة التي تحكي قصّة رجل شيطانيّ التصرّفات يرتكب أعمالاً إجراميّة، لتتبعه مجموعةٌ من أفلام الرعب المُستقاة من روايات الرعب الشهيرة، ومنها رواية «فرانكشتاين» على يد الشابّة ماري شيلي في العام 1818 م، والذي جسَّده فيلم «فرانكنشتاين» (1910) وهو فيلم صامت قصير استغرقَ عرضه ستّ عشرة دقيقة، وأخرجه توماس أديسون المُخترع الأكثر شهرة. كما شهد العام نفسه عرضَ النسخة الأولى من فيلم «دكتور جيكل ومستر هايد».

ولم تمضِ سوى سنوات حتّى شهدت صناعة السينما حَدثاً فريداً تمثَّل في عرْضِ أوّل أفلام الرعب التي يُطلق عليها أفلام الرجال الذئاب. كان ذلك في العام 1913 عندما عرضَ المُخرج هنري ماكري فيلم «الرجل الذئب»، وشهدت صناعة السينما الصامتة حَدثاً بارزاً بعرْض فيلم «خزانة الدكتور كاليجاري» الذي هزَّ الساحةَ السينمائيّة بفكرته الجريئة التي تناولت حياة ممثّل يتمادى في ارتكاب جرائم قتل فظيعة في إحدى القرى الألمانيّة، وتحوَّل الفيلم الى واحد من أبرز الأفلام الكلاسيكيّة التي أنتجتها صناعة السينما الصامتة بفكرته وتصويره المُتقن وإجادة تجسيد الشخصيّات. وجاء العام 1920 ليشهدَ عرْضَ النسخة الثانية من فيلم «دكتور جيكل ومستر هايد»، وكان أوّل فيلم ينقل وقائع الرواية الشهيرة بكلّ تفاصيلها. وظهر فيلم «فرانكنشتاين» الناطق في العام (1931). كما تحوَّلت رواية «دراكولا» (1897)، للكاتب الإيرلندي أبرام ستوكر، إلى فيلمٍ في العام 1931 على يد شركة يونيفرسال. كما ظَهَرَ فيلمَا «أحدب نوتردام» الذي تمَّ عرضه للمرّة الأولى في العام 1923، ثمّ فيلم «شبح الأوبرا» في العام 1925، وفيلم «لندن بعد منتصف اللّيل» الذي أخرجه «تود برانج» ويُعَدّ من العلامات الفارقة في تطوُّر صناعة سينما الرعب.

وقد شهد العام 1900 عَرْضَ أفلامٍ مَزجت الخيالَ العلمي والرعب؛ وأقبل المشاهدون بصورة غير مسبوقة على فيلم «شيء من عالَمٍ آخر» الذي تدور أحداثه حول مجموعة من العُلماء في محطّة أبحاث علميّة في القطب الشمالي، يعثرون على مخلوقٍ غريب متجمّد داخل كتلة من الجليد، وعندما يفلح العُلماء في إخراجه يكتشفون أنّ المخلوق ليس ميّتاً، بل حيّاً ويعاملهم بعدوانيّة شديدة.

وكان فيلم «يوم كفَّت الأرض عن الدوران»، والذي تمَّ عرضه خلال العام نفسه، أوّل نموذج عن الأفلام التي تدور فكرتها حول تهديداتٍ بغزو الأرض من مخلوقات غريبة؛ وتوالت بعدها عروض هذه النوعيّة من الأفلام. وفي العام 1953 تمَّ عرْض فيلم «حرب العوالِم»، وهو أوّل فيلم ملوَّن في تاريخ صناعة سينما الرعب، واستمدّ فكرته من رواية الكاتب «اتشى جيه ويلز»، ودارت أحداثه في فترة الخمسينيّات.

ويُعَدّ فيلم «منزل الشمع» واحداً من الأفلام القليلة التي ركَّزت على الرعب والمَزْج بينه وبين الخيال العلمي واستخدام تقنيّة الأبعاد الثلاثة. وكان فيلم «هُم» الذي تمَّ عرضه في العام 1954 من أهمّ نماذج الأفلام الكلاسيكيّة التي مَزجت بين الخيال العلمي والرعب، وتدور أحداثه حول تهديداتٍ كوبيّة بشنّ هجومٍ نووي على الولايات المُتّحدة في الخمسينيّات، حيث تقع أزمة صواريخ بين البلدَيْن وترسل كوبا جيوشاً من النمل المشبع بالإشعاعات النوويّة إلى صحارى أريزونا لاجتياح بلاد العمّ سام. كما قامت شركة ستديوهات هامر البريطانية بعرض رؤيتها الخاصّة لرواية ماري شيلي «فرانكنشتاين» في العام 1956 وحقَّقت شهرةً كاسحة.

وبحلول الثمانينيّات حَدَثَ تطوُّرٌ كبير في أفلام الرعب. فقد روَّجت تلك الأفلامُ لأبطالها من الدمى والعرائس، مثل فيلم «لعبة طفل»، الذي ساعَدَ على رواج دمية «تشاكي» وبيعها، لكونها تمثِّل بطلَ تلك السلسلة الذي تسكنه روحٌ شيطانيّة تُدمِّر، وتَقتل، وتَنشر الشرّ في كلّ مكان.

ويُعَدّ فيلم «دراكولا» لبرام ستوكرز واحداً من أفضل أفلام الرعب التي تمَّ عرضُها في العام 1992، وهو إعادة لإنتاج واحدٍ من أفلام الرعب الكلاسيكيّة. ويُجمع النقّاد على أنّ فيلم «تيرميناتور 2» هو أفضل الأفلام التي تمَّ عرضها في تلك الفترة. ويُعَدّ فيلم «صرخة» الذي تمَّ عرْضُه في العام 1996 من العلامات الفارقة في مسيرة صناعة سينما الرعب، حيث استطاعَ إعادة الإقبال على هذه النوعيّة من الأفلام.

مخاطر وأضرار مُحتمَلة

تُثير أفلام الرعب المُعتمِدة على العنف المباشر اهتمامَ عددٍ كبيرٍ من الناس على اختلاف شرائحهم الاجتماعيّة، وخصوصاً فئة المُراهقين والشباب، ويُبرِّر عُلماء النَّفس ذلك بداعي «شحنات نفسيّة يقوم المُراهِقون بتفريغها في أثناء مشاهدتهم تلك الأفلام». وعلى الرّغم من تنوُّع أفلام الرعب واختلاف شخوصها فإنّ السيناريو واحد، وهو توليفة مكوَّنة من مشاهد العنف الدمويّة، وصور عوالِم الأشباح والأرواح الخفيَّة، مع استغلال المؤثّرات الصوتيّة التي تبعث على التوتُّر، وتقنيّات الإضاءة، والاستفادة من فعْلها النفسي والعصبي على المُشاهِد.

وعلى الرّغم ممّا ألمحت إليه دراساتٌ من توافُر فوائد مُحتمَلة جرّاء مُشاهدة أفلام رعب من قِبَلِ بالغين، ثمّة آراء تفيد بأنّ هذه الأفلام تُساعد البعض على مُواجهة مخاوفهم المُحتمَلة، ولاسيّما المُصابين منهم باضْطرابات نفسيّة. كما تُسهِم في زيادة إفراز الأدرينالين، وزيادة حرْق السعرات الحراريّة، وكذلك ازدياد احتمال التقارُب والتفاعُل مع الآخرين، وتوطيد فُرص التواصُل الاجتماعي.

في المقابل، تؤكِّد دراساتٌ أخرى على أنّ مشاهدة أفلام الرعب تؤثِّر سلباً في الدماغ البشري، وترفع من ضغط الدمّ، كما تحمل مَخاطِر للأفراد من ذوي القلوب الضعيفة، وتؤثِّر عليهم بشكلٍ خطير.

وبحسب موقع «هيلث لاين»، تحتوي أفلام الرعب على حيَلٍ نفسيّة تخلق أوهامَ التشويق والخَطر من خلال التلاعُب بالصور، والصوت، والقصّة، وعلى الرّغم من أنّ عقل الفرد يُدرِك أنّ تلك التهديدات ليست حقيقيّة، فإنّ الجسم يُسجِّلها في الوقت نفسه، كما لو كانت كذلك.

توضح الخبيرة النفسيّة والمُديرة التنفيذيّة لمعهد اضْطرابات القلق والإجهاد في ماريلاند «سالي ونستون»، أنّه «عند مُشاهدة أفلام الرعب، يضخّ قلبكَ الدمّ ويتدفّق هرمون الأدرينالين في جسمك، ويضيق انتباهكَ، حتّى عندما تَعرف أنّك في المنزل أو في المسرح ولا يوجد خطرٌ حقيقي».

وتؤكّد دراساتٌ أخرى أنّ «كثرة مشاهدة أفلام الرعب تَخلق نوعاً من اللّامبالاة والتبلُّد وقلّة الانفعال؛ ففكرة الاهتمام بالآخر لدى متلقّي الرعب تُصبح أقلّ، وتتدنّى نسبة مُراعاة مشاعر الآخر». ومن بين التأثير السلبي النّاتج عن مشاهدة الطفل أفلام الرعب والعنف على صحّته النفسيّة وسلوكيّاته، تحوُّله إلى شخصيّة غير سويّة على المدى البعيد. لذا ينبغي على الآباء والأمّهات إبعاد الطفل عن تلك النوعيّة من الأفلام، بالنَّظر إلى ما تغرسه في الطفل من خيالات وتوهيمات، أو انفصال عن الواقع، أو حتّى من استعدادٍ لتقبُّلِ جرائم القتل والعنف.

*جامعة الإسكندريّة- مصر

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.