وليس خافيا بطبيعة الحال الارتباط الكبير بين كفاءة المنظومات القانونية والعدلية في أي دولة وقدرتها على المنافسة في الأسواق العالمية، من خلال التصنيف الذي تناله، بناء على معايير محدّدة تتولّى جهات دولية مراقبتها وضمان وجودها. لذلك فإن هذه المساعي تأتي داعمة للجهود الكبيرة التي تبذلها القيادة لترقية الاقتصاد عبر استحداث مشاريع نوعية وغير مسبوقة وانخراط المملكة في الاقتصاد العالمي، وفق ما نادت به رؤية 2030.
ولا أدل على ذلك مما شهدناه خلال الأيام القليلة الماضية، حيث أجاز مجلس الوزراء تعديلات جوهرية على نظام العمل والعمال هدفت بالأساس لإيجاد بيئة عمل أكثر جاذبية للعاملين، وتحقيق التنمية المستدامة، كما تتوافق هذه التعديلات مع إستراتيجية سوق العمل، والاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها المملكة العربية السعودية، إضافة لتعزيز الاستقرار الوظيفي، وحفظ حقوق أطراف العلاقة التعاقدية، وتطوير الكوادر البشرية وتعزيز فرص تدريب العاملين.
ومما يثير الإعجاب أن التعديلات التي تمت على القانون تم إقرارها بعد دراسة موسّعة لذوي الاختصاص استندت على مقارنات معيارية مع أنظمة العمل في دول متعدّدة، ودراسة أفضل الممارسات العالمية، وبعد ذلك تمت استشارة ممثلين عن منشآت القطاع الخاص والجهات الحكومية ذات العلاقة واللجان العمالية واتحاد الغرف التجارية وخبراء الموارد البشرية، وعدد من المختصين من خلال ورش عمل ولقاءات تشاورية.
ليس ذلك فحسب، بل إن المشرّع أكد حرصه على الاسترشاد بآراء كافة الجهات ذات العلاقة، حيث تم عرض المقترحات بعد دراستها عبر منصة استطلاع، وتمت معرفة آراء ما يزيد على 1300 مشارك أسهموا في إضافة آرائهم ومقترحاتهم على التعديلات التي تضمّنت تعديل 38 مادة، وحذف 7 مواد، وإضافة مادتين جديدتين في نظام العمل.
وقد نصت التعديلات الجديدة على إلزامية توثيق العقود، وتحديد فترة التجربة، وتوضيح آلية فترة الإشعار لإنهاء العقد غير محدد المدة من الطرفين، وكذلك رفعت إجازة الوضع إلى 12 أسبوعا، وإضافة إجازة في حالة وفاة الأخ أو الأخت مدتها 3 أيام، كما نصّت على حقوق المتدرب وصاحب العمل وتحدد سياسات التدريب في العقود.
في الإطار ذاته، أقر مجلس الوزراء نظاما جديدا للاستثمار، وهو ما يُعد خطوة كبيرة لتطوير بيئة الأعمال تهدف بصورة رئيسية إلى ضخ جرعة قوية لتدفق رؤوس الأموال وجذب الشركات العالمية بما يتسق مع أهداف برامج تنويع الاقتصاد الوطني وتحقيق النهضة والنمو وتوفير فرص العمل، وتعزيز الشفافية وتبسيط عملية الاستثمار في السوق المحلية، وجذب رؤوس الأموال الأجنبية.
ويهدف النظام الجديد إلى الجمع بين حقوق وواجبات المستثمرين تحت إطار موحد، وتوفير المزيد من الشفافية والمرونة والثقة وتحقيق تكافؤ الفرص، وتبسيط الإجراءات وترسيخ الحوكمة للمساهمة في حل النزاعات بفاعلية، وإتاحة وسائل بديلة لتسويتها كالتحكيم والوساطة والمصالحة، وتوسيع قاعدة المحفزات للمستثمرين. كما اقتضت إجازة القانون الجديد إلغاء تراخيص المستثمرين الأجانب واستبدالها بعملية تسجيل مبسطة.
وكانت المملكة قد قامت خلال الفترة الماضية بإجراء العديد من التعديلات القانونية التي هدفت إلى تعزيز الشفافية والحوكمة، وسعت إلى إيجاد بدائل مقبولة لدى المستثمرين الأجانب، إلا أن القانون الجديد استصحب كل تلك الجهود وقام بصياغتها في قالب يتوافق مع متطلبات العصر واحتياجات المرحلة.
وقد حصدت المملكة ثمار هذه الجهود سريعا، حيث ارتفع رصيد الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة 61 % بنهاية العام الماضي ليصل إلى حوالي 215 مليار دولار. كما تصدّرت السعودية دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، للمرة الأولى في إنجاز تاريخي جديد من حيث إجمالي قيمة الاستثمار الجريء في 2023، حسب منصة «ماجنيت» المتخصّصة في تتبّع نشاط الشركات الناشئة في المنطقة، حيث استحوذت على 52% من إجمالي ذلك الاستثمار مقارنة بنحو 31 % عام 2022، وهو ما يؤكد جاذبية السوق السعودية، ويعزز بيئتها التنافسية.
هذه التعديلات القانونية، إضافة إلى الموافقة على نظام جمع التبرعات، ونظام هيئة الرقابة ومكافحة الفساد خلال نفس الفترة تقريبا تثبت حقيقة ماثلة للعيان، أن السعودية ماضية في طريقها نحو إعلاء قيم النزاهة والشفافية والمحاسبة وتعزيز الحوكمة والمأسسة لاستكمال التحول الكامل نحو دولة القانون.
لذلك فإن هذه التعديلات التي سدت ثغرات عديدة سوف تسهم - بإذن الله - في زيادة جاذبية السوق السعودية بما يؤدي لاستقطاب كفاءات عالية الجودة، وتحديد مصادر الحقوق والالتزامات وآثارها، مما ينعكس إيجابًا على بيئة الأعمال ويزيد من جاذبيتها، ويسهم أيضًا في تنظيم الحركة الاقتصادية واستقرار الحقوق المالية، وفي تسهيل اتخاذ القرارات الاستثمارية، إضافة إلى تعزيز الشفافية.
لذلك فإني على ثقة كاملة بأن دولة لها مثل هذه القيادة الرشيدة، وتمتلك الرغبة في التطور ومسايرة العصر سيكون مكانها الطبيعي في صدارة الأمم، وسترتقي بشعبها وتوصله للمكانة اللائقة به والتي تعمل عليها بكل جدية. وستظل هذه الإسهامات القضائية جسرا نحو العدالة، وطريقا لتأكيد عمق وقوة وحجية القانون في المملكة وسيادته، وبيئة جاذبة لأصحاب الأعمال، لا سيما في ظل تزايد التحديات، وتشعب الاحتياجات وتداخل المصالح.