لست بعالم اجتماع ولا متخصصاً فيه، لكني أعيش تفاصيل مجتمعية ألمس تأثيرها المباشر فيّ وفي من حولي. بهذه القاعدة العريضة دعوني أتعمق أكثر بحدود واضحة وجملة مباشرة، وأنه لا يوجد صح أو خطأ في مسار حياتنا، أو أنه يجب علينا كلنا أن نسلك طريقاً واحدة بمراحلها الواضحة المتسلسلة، وأن أي تعثر في إحدى المراحل، فإنك سترتدي قناع العار، وستكون منبوذا وعين الخزي بنظراتها ستترقبك. هذه ليست بحياة وليست بيئة محفزة للاختلاف والتنوع، فهي تحثنا على العيش في قوالب وسجن من الاختيارات المحدودة. فمفهوم «العيش في قوالب» يعني أن الشخص مقيد في طريقة تفكيره أو أفعاله، وكأنه محصور في إطار جامد لا يسمح له بالخروج عن النمط المتعارف عليه. هذه القوالب قد تكون اجتماعية (مثل الأدوار المرسومة بين الجنسين، التوقعات العائلية)، ثقافية (التقاليد، العادات)، أو حتى ذاتية مثل (الخوف من الفشل، الاعتقاد بقدرات محدودة).

مع الأسف نعيش هذه التفاصيل يومياً مع من تخلى عن التسلسل العرفي والمنطقي في عين المجتمع. فعلى سبيل المثال التسلسل المنطقي المجتمعي، بأن الشخص ينتهي من التعليم العام ثم الجامعي مباشرة، وبعدها يبدأ مساره الوظيفي. وما أن تبتل عروق جيبه قليلاً بحفنة من المال، يبدأ يتجول بين البنوك للبحث عن قروض، ليبدأ بعدها مرحلة البحث عن شريكته في القروض، أقصد في الحياة. ثم ومن السنة الأولى يبدأ بتكديس أكوام من الكائنات في منزله لا تتناسب مع مدخوله ولا مساحة سكنه. هذا البطل في عرف مجتمعه مثالي، ويمشي وفق التسلسل المرسوم له من توجهات وأفكار الناس. فالخوف من المجهول يجعل الناس يتجنبون تجربة أشياء جديدة خوفاً من الفشل أو الرفض. كما أن الضغوط الاجتماعية تجعلهم يشعرون بضرورة الالتزام بتوقعات المجتمع حتى لا ينبذهم. فمن يتأخر عن الزواج لأي سبب تبدأ الريبة والشكوك حوله، ثم وإن أقحم نفسه في هذه المغامرة رغماً عنه ولم ينجب تبدأ دائرة أخرى من التساؤلات والاستفهامات غير النهائية. ثم ولأن المجتمع وضعه في قالب محدد وتسلسل حياة معين فرضها عليه ورضخ لها، يبدأ الإنسان يشعر بالملل والرتابة وعدم تحقيق الذات والعيش في دوامة الاكتئاب.

لا بأس في أن تتعثر وتتبعثر، تتشتت وتقدم مرحلة على مرحلة، وأن تخفق في أحد المراحل وتتجاوز أحد المراحل دون عيشها، فنحن مختلفون في تجاربنا وفي بيئاتنا وفي تفاصيل حياتنا، فوجودنا في قوالب مرسومة من قبل المجتمع ظلم لك ولي وللمجتمع.