ضمن توجّه المملكة لحوكمة القطاع العام وسائر الجهات الحكومية، جاءت موافقة مجلس الوزراء في جلسته الأسبوع الماضي على الدليل الإرشادي لحوكمة الجهات الحكومية، لتمثّل تتويجا لما نادت به رؤية المملكة 2030 التي عملت منذ إقرارها على تطوير كافة جوانب العمل العام ومأسسته لتعزيز قيم النزاهة والشفافية، ومحاربة الفساد المالي والإداري، والتصدّي لجميع أشكال التجاوزات، وتطوير البيئة التشريعية والسياسات والإجراءات لتعزيز الوعي بأهمية الحوكمة والحد من المخاطر الناتجة عن عدم الالتزام.

وتُعد الموافقة على هذا الدليل خطوة هائلة في مسيرة النهضة التشريعية التي تشهدها بلادنا في هذا العهد المبارك، والتي يقودها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، بإشراف مباشر ومتابعة لصيقة من عضيده وولي عهده الأمير محمد بن سلمان - حفظهما الله - والتي حققت منذ انطلاقتها نتائج باهرة من واقع الاهتمام الكبير الذي تحظى به، حيث ترتبط مباشرة بحياة الناس وحفظ حقوقهم وتنظّم أحوالهم ومعاشهم، وتضع الحدود الفاصلة ما بين الحقوق والواجبات، وتمنع حدوث الفوضى وتوقف التجاوزات.

ويستمد الدليل الإرشادي أهميته لأن الحوكمة تعني إدارة المؤسسات والمنظمات بشكل فعاّل ومسؤول لتحقيق التوازن وإنجاز الأهداف والمصالح العامة، كما أنها اللبنة الأساسية لإيجاد بيئة أعمال نموذجية تتسم بالشفافية والنزاهة وحكم القانون والمشاركة والمساءلة، والاستجابة وغياب الفساد والمخالفات. لذلك باتت مطلبًا أساسيًا لضمان تطور القطاع الحكومي واتخاذ القرارات الرشيدة التي تراعي متطلبات وتوقعات جميع المعنيين والمستفيدين من خدمات القطاع الحكومي.


فإذا ما غابت الحوكمة فإن ذلك يقود بدوره إلى غياب الدور الرقابي وعدم تفعيل مبدأ المساءلة الذي هو عنصر أساسي لمحاربة الفساد بشتى أشكاله، وهو ما يعطّل كافة الجهود الرامية للارتقاء والنمو وتحقيق الأهداف المنشودة وبالتالي تدمير الاقتصاد والقدرة المالية للدولة.

وبالعودة إلى الدليل الإرشادي الذي أقرّه مجلس الوزراء، فإن نظرة سريعة لبنوده توضح بجلاء حجم الجهود التي بذلت في إعداده، حيث ينص على وضع إطار تنظيمي شامل لحوكمة جميع الجهات الحكومية بدءًا من الوزارات والهيئات والمجالس والمراكز والصناديق والأمانات والبنوك والمؤسسات التعليمية والبلديات والكيانات ذات الشخصية المعنوية المستقلة.

كما شدّد على إقرار مبدأ سيادة وجودة التشريعات بما يعكس اهتمام القيادة الرشيدة بحكم القانون، وأن تكون جميع تصرفات الجهات الحكومية المعنية في حدود ما تسمح به الأنظمة عبر اتباع جميع القواعد الملزمة مع مراعاة التدرج في قوتها. وأقر كذلك مبدأ فعالية الأداء الحكومي الذي يعني تعظيم الاستفادة والاستخدام الأمثل للموارد المالية والبشرية المتاحة لتنفيذ الأعمال.

ومن أهم ما يلفت النظر في الدليل أنه لم يكتف بوضع مبادئ استرشادية، بل جاء وافيًا متسمًا بالواقعية، حيث يسمح للجهات الحكومية ببناء منظومة حوكمة ذاتية من خلال بناء وحدات تنظيمية متخصصة تساهم في وضع الإطارات اللازمة لاستكمال عملية الحوكمة، إضافة لإبرازه أهم اللوائح والسياسات الإجرائية وإجراءات حوكمة الجهات الحكومية.

وبطبيعة الحال فإن صدور الدليل الإرشادي وإقراره من الجهات المختصة لا يمثّل غاية في حد ذاته، إنما هو خطوة أولى ضرورية للوصول للغايات المرصودة، حيث لا بد للجهات الحكومية أن تضاعف الجهود لتطبيق هذه المبادئ واللوائح والسياسات، والمسارعة بإيجاد الكيانات المتخصصة والقادرة على استيفاء وتنزيل متطلبات الوصول إلى بيئة تتسم بالحوكمة والمؤسسية.

ولأننا نمر بمرحلة استثنائية في تاريخ المملكة، فإن صدور هذا الدليل في هذا التوقيت بالذات يكتسب أهمية كبرى لا سيما في ظل الجهود التي تقودها الدولة نحو القضاء على الفساد المالي والإداري وتحقيق العدالة وإعلاء قيم المحاسبة والشفافية والمساءلة، حيث يبرز دور الحوكمة في نشر وتعزيز مفهوم الشفافية وإتاحة المعلومات والبيانات أمام الجمهور. إضافة إلى التشديد على ضرورة التزام المسؤولين بمعايير السلوك الأخلاقي والقانوني وتجنب أي صراعات مصالح.

ويمتد أثر الحوكمة ومفعولها ليشمل تحديد وتقييم وإدارة المخاطر المحتملة التي قد تؤثر على أداء مؤسسات العمل العام، إضافة للحفاظ على التوازن بين الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية للعمل، وإلزام المؤسسات بتقليل تأثيرها البيئي وتعزيز ممارساتها المستدامة والمسؤولة اجتماعيًا، إضافة إلى تحقيق التوازن بين الاحتياجات المجتمعية المتباينة وتلبية تطلعات المواطنين.

حتما سيكون لهذا الدليل الإرشادي أثر كبير في تعزيز ثقة المواطنين بالدولة ومؤسساتها من خلال تحقيق زيادة نسبة رضا المواطن عن الخدمات التي يقدمها القطاع العام، تحقيق مبدأ المحاسبة والمساءلة من خلال الالتزام بالقوانين والأنظمة، وقد رأينا أثر ذلك جليا خلال الفترة الماضية حيث تبوأت المملكة المرتبة الأولى على مستوى العالم في مؤشر ثقة الشعوب في أداء الحكومات. وأكد تقرير مؤشر الثقة السنوي 2024 الخاص بشركة «إيدلمان» العالمية الرائدة في مجال الاستشارات والعلاقات العامة، أن غالبية المواطنين السعوديين يثقون تماما في حكومة بلادهم وأنهم مقتنعون بأنها تفعل كل ما بوسعها لاتخاذ القرارات اللازمة لتحقيق التطلعات والمستهدفات الوطنية.

وإن كان من مجال لإبداء وجهات النظر في هذا الأمر فأقترح إنشاء جهة مختصة تقوم بإعداد نماذج الحوكمة التي تتناسب مع كافة المؤسسات والجهات الحكومية، كل بحسب اختصاصه وطبيعة عمله، وذلك حتى لا نترك ذريعة لأي جهة في حالة حدوث تجاوزات.

الآن حصحص الحق، وعلى جميع المسؤولين بمختلف درجاتهم ومناصبهم وأماكن عملهم إدراك أن الدولة تمضي بكل طاقتها نحو تعزيز قيم المساءلة والمحاسبة وتحقيق العدالة والنزاهة، وأن الشفافية هي عنوان المرحلة المقبلة، وقد أوفت القيادة بكل التزاماتها نحو تجويد العمل وتحقيق تطلعات الشعب ورغباته وفق أسس مؤسسية واضحة، ولا يوجد بيننا مكان لأي متقاعس يريد التغريد خارج السرب.