وصلت مجموعة صغيرة من الرجال والنساء، وهي في غاية الخوف والهلع والترقُّب، تفقدت المجموعة الجثث الملقاة على أرض «روضة مهنا»، بعد أن هرع كل واحد منها إلى من يظنه قريبه... كانت الرؤوس مفصولةً عن الأجساد بطريقة بشعة؛ جثث بعضها فوق بعض، لم يفرق السيف بين رجل طاعن في السن أو امرأة أو طفل؛ كلهم قُتلوا بالطريقة ذاتها.

صرخ أحدهم أن ثمة نفسا في أحد الأجساد، تجمَّع القوم، فوجدوا رجلًا لم يحز السيف رقبته كما ينبغي، فسقط مغشيًّا عليه من هول الألم والموقف، وظل الموت ينازع الحياة فيه؛ حتى أسعفوه في الرمق الأخير.

قاموا من فورهم بوضع ملح في خرقة وغمسها في الدهن المغلي ولسع موضع القطع في رقبة المصاب؛ ليلتئم الجرح ويجتمع بعضه إلى بعض، ونقلوه إلى داره، وظلوا على هذه الحال حتى شُفي «ابن فضل»، الناجي الوحيد في مذبحة «الحواشيش».


«الجنازة»، هكذا كان يلقبه أهل حائل؛ موتٌ متحرك، لا يهاب المنايا، غليظ الطبع، قاسي القلب، منزوع المشاعر، تُروى عنه قصص وحكايات أشبه بالأساطير، كان يلبس ثوبًا أسود في المعارك، ويقول: «هذا كفني»، فأُطلق عليه لقب «الجنازة».

كانت نقطة الضعف التي مُني بها حكم «عبدالعزيز المتعب» هي مجافاته للسياسة التي تتطلب المهادنة والكر والفر، واعتمد على القوة وحدها، وتوهَّم أنها سبيلٌ لمد النفوذ والسيطرة.

انشغل طيلة سنوات حكمه الثمانية لحائل، بحروبه الصغيرة مع «ابن صباح»، ومنافسته، غير أن القدر السيئ والحظ العاثر ساقا «الجنازة» إلى الوقوف أمام عظمة الحلم السعودي، فكانت نهايته المأساوية التي تنسبها عجائز نجد إلى ظلمه «للحواشيش» وقتلهم صبرًا، في «روضة مهنا» شرق منطقة القصيم.

كان من عادات أهل نجد، في نهايات القرن التاسع عشر وحتى ما بعد منتصف القرن العشرين، خروجهم إلى الفيافي المعشبة، يحتطبون ويجمعون الحشائش؛ ليعودوا بها إلى بلداتهم، فيبيعون بعضها بدريهمات قليلة، والبعض يضعونه علفًا للماشية الهزيلة التي تدر بعض الحليب، وكانت لا تتجاوز بقرة واحدة ومجموعة صغيرة من الماعز ربما بلغت ثلاثًا في أمتن الأحوال.

في ذلك اليوم الغابر الذي لم تغب شمسه على خمسة وأربعين فردًا غالبهم كما تقول بعض الروايات من أهل بريدة، وقليل من البلدات المجاورة لروضة مهنا، (الربيعية والنبقية)، داهم تلك المجموعة في ذلك المكان جيش «عبدالعزيز المتعب»، الذي ما زال يتجرَّع مرارة الهزائم المتلاحقة التي مُني بها، فأقسم على ألا يمس النساء، ولا يدخل «حائلًا» حتى ينتقم لنفسه، وتأخَّرت عليه كل فرص الانتقام والبر بقسمه؛ مما زاد شراسته وحقده سوءًا إلى سوء.

وفي ركضه الدائم خلف انتقامه في أرجاء القصيم، وافق ذات صباح في سنة 1906 (أواخر 1323)، في روضة مهنا تلك المجموعة التي كانت تقوم بجمع الحشائش النابتة بفعل المطر، في جو ربيعي بديع... لم ترق لهم مشاعر «ابن رشيد» أو قلبه؛ فأمر جنوده بجمع الرجال والنساء والأطفال في حبل واحد مقيدةً أيديهم خلف ظهورهم، وأمر سيافه بجز رؤوسهم واحدًا تلو الآخر، فتنادى به بعض أصحابه بأنهم قوم ضعاف لا حيلة لهم ولا قوة؛ فخاطبهم بكل الجبروت والطغيان الذي نزل على الأرض تلك اللحظة: بأنهم لن يتوانوا عن نصرة «ابن سعود» والحرب معه تحت رايته.

بدأ «ابن رشيد» المجزرة، حتى جاء الدور على رجل طاعن في السن معه طفل صغير لم يتجاوز العاشرة؛ فقال الشيخ العجوز: «دع هذا الطفل، فورائي بنات أيامى لا حول لهن من بعدي ولا قوة»، ففتر فم العابس عن ابتسامة استخفاف؛ فأمر الجلاد أن يجز رأس الطفل أمام والده أولًا، ثم يثني بالشيخ الهرم.

مضى ابن رشيد، مخلفًا القتلى وجثثهم بلا صلاة ولا دفن، وقد دقّ بفعلته تلك آخر المسامير في نعش جنازته الحارة، وظلَّت صورة الشيخ العجوز تلاحقه في منامه وأحلامه؛ فكانت عينه تجافي النوم كل ليلة، حتى يوم مصرعه، وكان يردد في سره وجهره: «وش لي والشايب وولده».

بعد شهرَين من هذه الحادثة وفي 1906 (صفر 1324) وفي المكان ذاته، روضة مهنا، تقابل جيشا الملك عبدالعزيز وعبد العزيز المتعب، وفي ليلة ثارت عواصفها واختلط الحابل بالنابل، فزع «ابن رشيد» من أمام ناره وقهوته، وانطلق يجاري قلقه وخوفه من سطوة السعوديين، فركب فرسه البهيم الأسود كقلبه؛ لتفقُّد قواته، فجال حتى وصل إلى الصفوف الأمامية لقومه الذين انتقلوا عنه دون علمه، ورأى في بصيص ضوء خافت راية تلوح، فنادى على صاحب الراية ظنًّا منه أنه حامل رايته الملقب «الفريخ»، غير أنه لم يكن إلا «ابن مطرف» حامل الراية السعودية؛ وكان «ابن مطرف» يعرف «ابن رشيد» وصوته، فنادى بصوته الجهوري: «ابن رشيد يا طلابته»، فانهمر الرصاص عليه، فكان مصرعه وخاتمته السوء. بعدها نُصبت رأسه في وسط سوق بريدة، في مكان يُعرف بين الناس إلى يومنا هذا بــ«قبة رشيد»، نسبة لأمير بريدة رشيد بن سليمان الحجيلاني آل أبوعليان (ت: 1253هـ)، وما زال الناس يطلقون على تلك السنة «سنة ذبحة ابن رشيد» أو «سنة ذبحة الحواشيش».