هناك قبل أعوام عشت الماضي الجميل، وبنفس الأحجية اليوم أتوق لانتزاع العجب في تحليل كل غريب أشاهده في هذا الحاضر.

كنت في سن صغيرة عندما بحت لأمي عن شغفي بالحيوانات الأليفة، فاتفقت هي وأبي أن يهدياني خروفاً صغيراً ألهو معه، كان أبيض ذا فرو كثيف تتوسط رأسه بقعة سوداء كبيرة، أحببته جداً، فقضيت معظم يومي بحديقة منزلنا معه، أتماهى مع طبيعة بلادنا الشحيحة في عطائها، وتلسعني شمس المدينة بريحها الساخنة، ولكن هذا كله لم يثنني عن الركض واللعب مع خروفي الجميل.

كانت طفولة جميلة بالرغم من بساطتها وقلة وسائل ترفيهها، ولكني الآن فقط أدركت كيف أن الطبيعة تساهم في تشكيل شخصية الطفل، فالحيوانات والغابات والنباتات هي من الأشياء التي تثري خيال الطفولة، واستبدالها بحيوانات وغابات الديجيتال من شأنه أن يترك آثاراً سلبية على شخصيته، وللأسف أن الطفل في عصرنا هذا يظل محاطاً بشاشات الديجيتال منذ استيقاظه مع ساعات الصباح الأولى وحتى ساعة نومه، فهو يتنقل من جهاز التلفزيون إلى الحاسوب إلى الـ "بلاي ستيشن"، ويضع على الدوام "البي إس بي" في جيبه أو"الآيباد" في حقيبته، إضافة إلى كل ما هناك من ألعاب متنوعة ومختلفة الشاشات والأحجام. ولا يخفى علينا أن الإفراط في استخدام التكنولوجيا الحديثة له تأثيرات سلبية كبيرة خاصةً لدى الأطفال، منها مشاكل صحية ومشاكل فكرية ومشاكل اجتماعية. فالطفل الذي يعتاد النمط السريع في تكنولوجيا وألعاب الكمبيوتر قد يواجه صعوبة كبيرة في الاعتياد على الحياة اليومية الطبيعية التي تكون فيها درجة السرعة أقل بكثير، مما يعرض الطفل إلى نمط الوحدة والفراغ النفسي سواء في المدرسة أو في المنزل.

إذن كيف يمكن إعداد أطفالنا لتفادي الآثار السلبية غير الطبيعية في عالم تكنولوجيا الصغار؟

أولاً: وضع ضوابط تتحكم باستخدام هذه المستجدات، أي أن نتحدث مع أطفالنا قبل شراء الجهاز عن الضوابط التي يجب أن يسيروا عليها ليُسمح لهم باستخدامه، مع ضرورة مشاركة الطفل في وضع هذه الضوابط، فالطفل يستجيب أكثر إذا فهم وشعر بمشاركته في القرار.

ثانياً: لا بد أن نفكر ببدائل مغرية نقدمها لأطفالنا عوضاً عن الوقت الذي يقضونه مع تلك الأجهزة، وذلك يكون بمعرفة هواية الطفل وصقلها وتطويرها.

ثالثاً: مراقبة تلك الألعاب.. فنسبة كبيرة منها تعتمد على التسلية والاستمتاع بقتل الآخرين وتدمير أملاكهم والاعتداء عليهم من دون وجه حق.

وفي هذا يقول الدكتور كليفورد هيل المشرف العلمي في اللجنة البرلمانية البريطانية لتقصي مشكلة الألعاب الإلكترونية في بريطانيا "لقد اغتصبت براءة أطفالنا أمام أعيننا وبمساعدتنا، بل وبأموالنا أيضاً، وحتى لو صودرت جميع هذه الأشرطة فإن الأمر سيكون متأخراً للغاية في منع نمو جيل يمارس أشد أنواع العنف تطرفاً في التاريخ المعاصر".

ومع هذا أرى أننا لو وضعنا الضوابط ووجهنا الطفولة توجيها صحيحا بمحاذاة التقنية الحديثة فسنرى الملامح المشرقة في استخدامها، إذ لا نستطيع أن ننكر الإيجابيات المتعددة للتكنولوجيا، فإنها تُنمّي عقول الأطفال وتزودهم بكم هائل من المعرفة بطرق مسلية وجذابة، ولكن يبقى دور الأسرة في تشكيل خط الدفاع الأول للحفاظ على فلذات أكبادنا، ويبقى زرع القيم والمبادئ في نفوسهم وتربيتهم تربية صحية واعية بمتطلبات العصر مع اتباع الأسس السليمة في التعامل مع براءة طفولتهم هو العامل الأساسي في خلق شخصية سوية النزعة صحيحة المنبت.

وفي الأخير أتمنى لو أن زمن الألعاب الشعبية الممتعة يعود، ففيها متعة لا تُعادلها متعة، يكفي أنها تشجع الأطفال على الحركة والاختلاط بأطفال جيرانهم ومن حولهم..

نعم أشتاق أحياناً إلى مشاهدة أطفالنا وهم يلعبون لعبة (الغميضة) أو (حدارجا بدارجا وطاق طاق طاقية) وغيرها من الألعاب التي كبرنا عليها، فقد اشتقت إلى أصواتهم بدلاً من أصوات ألعابهم الإلكترونية المزعجة.