تواصل المملكة العربية السعودية بذل جهودها لتنويع الاقتصاد وتوظيف الشباب، ولا شك في أن يكون صقل مهارات الشباب مفتاحاً لذلك. وقد ينفع مراجعة التجارب العالمية المسبقة المتعلقة بكيفية حصول الشباب على المهارات المهنية. في الحقيقة، الأساليب في هذا المجال بعيدة عن أن تكون موحّدة عالمياً أو تابعة لـ«أفضل الممارسات» (بست براكتس) بل هي متنوعة ومتسمة بـ«أفضل تناسب» (بست فت) وذلك تماشياً مع طبائع وأوضاع دول مختلفة.

أولاً، في ظل «اقتصادات السوق الحرة» (ليبرال ماركت إيكونوميز)، مثل تلك الموجودة في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، حيث يسود التنافس الحر في السوق مع تدخل حكومي محدود، تتنافس المؤسسات التعليمية الخاصة على جميع المستويات، ومن خلال ذلك ترتفع جودة التعليم ويتعزز الابتكار. ولكن يتسبب التنافس أيضاً في عدم المساواة؛ بينما يكافئ التنافس فائزيه (أو مدارس «النخبة»)، لا يضمن ذلك صقل مهارات الشباب على مستوى المجتمع الواسع، بما في ذلك الذين يدرسون في المدارس العامّة. وتسعى الحكومات في هذه الدول لإيجاد حلول لتلك المسألة أيضاً.

وهناك نمط آخر، هو «اقتصادات السوق المنسقة» (كوردنيتد ماركت إيكونوميز) الذي يتسم بتدخل الحكومة في السوق. في مجال صقل مهارات المهنية، كثيراً ما يُنظر إلى ألمانيا كأحد الأمثلة؛ حيث يتاح مساران تعليميان، أحدهما مسار يؤدي إلى التعليم العالي، والآخر مسار متخصص بالتدريب التقني والمهني. يُسهم مسار التدريب في الكفاءة العالية للمنشآت الصغيرة والمتوسطة الألمانية، ولا عجب أن هناك جاذبية قوية لتقليد الدول الأخرى لهذا النموذج. ولكن ما أسهل الكلام وما أصعب الفعل. كثيراً ما تفشل المحاولات لتعزيز قطاع التدريب المهني. وفي الحقيقة، كانت اليابان إحدى الدول الدؤوبة في ذلك، إلا أن خططها ظلّت حبراً على ورق.


يعود سبب الفشل إلى عدم تطابق المناهج التدريبية مع المهارات المطلوبة في السوق فعليًا، وجعَل الشك حول إمكانيات الحصول على وظيفة بعد التخرج من المدارس المهنية الطلبة وأولياء الأمور يرون التعليم العادي خياراً أكثر أماناً. يُعدّ عدم تطابق بين المهارات المدرَّسة في المدارس والمهارات المستخدمة في السوق (المعروف بـ«سكيلز ميسماتش»)، مشكلة هائلة عالمياً. ويكمن سر ألمانيا لتذليل هذه العقبة وإنشاء النظام الفعال في تنسيق مشاركة أصحاب الأعمال المباشرة في التعليم، بما في ذلك تطوير المناهج وتوفير التدريب المكثف «أثناء العمل» للمتدربين. في اليابان أيضًا، أحرزت بعض المدارس المهنية نجاحًا استثنائيًا، وذلك بفضل مشاركة أصحاب الأعمال المباشرة على المستوى الفردي.

لذا، تشجّع عدد من الأوراق البحثية الحكومة على تمهيد تعاون أقوى بين قطاع التعليم وأصحاب الأعمال لمعالجة مشكلة عدم تطابق المهارات. ولكن ما أسهل الكلام وما أصعب الفعل. تُعدّ فكرة التعاون فكرة جيّدة، لكن تطبيقها صعب للغاية من الناحية الهيكلية؛ فبينما يُعدّ التعليم من المصالح العامّة، يسعى أصحاب الأعمال لتحقيق الأرباح الخاصة؛ ولا يولد المشاركة في التعليم أرباحاً لهم، بل يفرض عليها التكاليف. كما تشير إليه تجارب إنجلترا الأخيرة لإصلاح نظامها للتدريب المهني، إذا كانت تُفترَض بالقانون، لا بد أن يحاول الكثير من أصحاب الأعمال تقليل التكاليف قدر الإمكان، من خلال توفير التدريب الرمزي فقط أو استغلال المتدربين ليكونوا موظفين مؤقتين بدلاً من الطلاب.

مع ذلك، كيف حققت ألمانيا مشاركة أصحاب الأعمال في التعليم؟ تُعد تلك المساهمة، في ألمانيا وعدة اقتصادات السوق المنسقة الأوربية، واجب أصحاب الأعمال الاجتماعي، وهذا الوعي الاجتماعي ليس منتَج السياسات، بل نتاج التاريخ. قبل الحرب العالمية الثانية، مع صعود الاشتراكية والشيوعية، بدت الثورة خطراً محدقاً محتملاً. ولمنع التطرف السياسي لطبقة العمال، تعاون أصحاب الأعمال والحكومة لتحسين ظروف العمل، وجاءت مشاركة أصحاب الأعمال في التعليم كجزء من هذه الجهود المشتركة. كان من غير المرجح أن يقبل أصحاب الأعمال تكاليف التدريب إلا في مثل تلك الأوضاع التاريخية الخاصة.

أما اليابان فأوجدت حلولاً خاصة بها؛ عَملت الحكومة على التنسيق بين التعليم وأصحاب الأعمال، إلا أنه لم يكن في مجال المهارات، بل في مساعدة الطلاب في المناطق الريفية، حيث كانت معدلات البطالة مرتفعة، للتوظيف في المناطق الحضرية والصناعية. وفي ما يتعلق بصقل المهارات المهنية، ركزت على دعم التدريب داخل الأعمال بعد التوظيف. وقد نجح هذا النهج، بفضل إمكانية التنقل المنخفضة في سوق العمل في اليابان، فمكن بقاء الموظفين في الشركة بعد التدريب أصحاب الأعمال من استرداد تكاليف التدريب لاحقاً. وكانت طبيعة السوق هذه ليست منتَج السياسات بل نتاج التاريخ في اليابان أيضاً. لم تكن العديد من المنشآت الصغيرة والمتوسطة مستعدة لتوفير التدريب لموظفيها، ممّا دفعها إلى إيجاد حل من خلال تنظيم التدريب الجماعي.

كما تعايش هذا النهج مع توسع التعليم العالي، الذي يُلقى إعادة النظر فيه مؤخراً في كثير من الدول من ناحية صقل المهارات المهنية. لم تَعد الجامعات في اليابان متوقعة لذلك الدور، فكان يكفي أن يوفر التخرج منها دليلاً على قدرة الخريجين على التعلم، وهي استعدادهم لقبول التدريب بعد التوظيف. قدّم هذا أيضاً حلاًّ لمشكلة الربط غير المرن بين الشهادة والتوظيف، حيث لا يمكن لسوق العمل الاستفادة من الشباب الحاصلين على شهادة جامعية في مجالات مثل العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية استفادة كافية. وبالطبع، هناك مقاومة شديدة، وربما مبررة، في قطاع التعليم ضد تحويل الجامعات إلى مدارس مهنية، حيث يُقال إن الجامعة هي منارة العلم والثقافة وهدفها ليس التدريب المهني.

وعلى الرغم من أن المدارس المهنية ليست القناة الرئيسة للتدريب في اليابان، فقد شهدت إصلاحات أيضاً، وذلك عن طريق تطوير اختبارات متنوعة للتأهيل ولقياس المهارات بالتعاون مع أصحاب الأعمال. عالجت هذه الاختبارات مشكلة عدم معرفة المدارس للمهارات المطلوبة في سوق العمل من خلال توضيح أي المهارات يجب تعلّمها. كما منعت الاختبارات المدارس من تطبيق «شكلي» للمهارات المطلوبة في مناهجها فحسب دون قبول التكاليف لإصلاحها حقيقياً (علمًا بأنه لا يمكن للحكومة تقييم فعالية تطبيق هذه المهارات بطريقة موثوقة)، وذلك بسبب أن الطلاب الآن يختارون مدارس ذات معدل عالٍ لاجتياز الاختبارات بين خريجيها. وقد نفعت الاختبارات أصحاب الأعمال أيضاً، ليس فقط لأنهم لم يثقوا بشهادة المدارس المهنية، بل لأن جودة التدريب تختلف بين الشركات، ولم يكن لدى كل الشركات نظام تقييم مهارات جيد.

تؤكد تجارب اليابان هذه أن صقل مهارات الشباب المهنية هو المجال المتسم بـ«بست فت» بدلاً من «بست براكتس». لم تنجح اليابان فيه إلا من خلال ابتكار حلولها الخاصة بها، التي تتلاءم مع شروط، أو تقييدات، خاصة بمجتمعها. هذا يشير إلى الحاجة إلى دراسة عميقة عن ما اشترط، اقتصادياً وتاريخياً، على نجاح وفشل السياسات العالمية المسبقة، وإذا كانت نفس الشروط موجودة في «وطننا»، والتأمل في ما يجب القيام به عندما تكون هذه الشروط غير متوفرة، على غرار بحث «تربية النبات» بما يتناسب مع كل تربة.

*باحث ياباني