الحقيقة، أن الناس اليوم أسرفوا كثيرًا، في الاهتمام بنزعاتهم الفردية، وجوانبهم المادية، وشهواتهم الخاصة، على حساب البناء الأخلاقي العام، وضاعت البوصلة بين القيود والتمييع، وصار العاقل خائفًا من غياب التوازن الصحيح، وسقوط سقف الأخلاق، وهو ما يشهد به أغلب من عاش العشرين سنة الماضية، من انقطاع بين الأجيال، واختلاف في الأذواق، وتباين في المعايير والأنماط، وصار ما يحدث خلال عشرين عامًا، يحدث في ثلاثة أعوام أو تزيد قليلًا. وكل هذا لن توقفه المخاوف من العصر، وكثرة المجادلات، واستنزاف الطاقات؛ إنما يوقفه حسن استيعابنا للواقع، وقدرتنا في صياغة خطابات دينية وثقافية تناسب العصر، ولا تتعارض مع الأصل، وأخص بالذكر هنا ما ورثناه من كنوز وثروات تشريعية مبثوثة في مدونات الفقه الإسلامي والأحكام الشرعية، على مدى القرون الماضية، التي لا يصح ولا يمكن التخفيف من قيمة آياتها أو التقليل من شأن أحاديثها.
الرهان اليوم، وبكل وضوح، هو على قدرة الناس، ومن مختلف التخصصات، على مواجهة التحديات التي فرضها ويفرضها العالم المعاصر، وانطلاق الشرعيين منهم، ومؤسساتهم المتنوعة، في صناعة فتاوى تواكب التسارع، وتقدر على المجاراة، وتدرك واجب وأهمية «الإصلاح الإنساني». فكل ذي بصيرة لا يخفى عليه أن الأجواء العالمية مشحونة بتوترات عجيبة، والنشاط الإلحادي في تزايد، والجوانب الأخلاقية في تناقص، ولا حل لهذا وذاك أسهل من جمع الرؤى، وإبراز القيم الأخلاقية، والسعي الجاد في بناء الإنسان الصالح، والاجتهاد التام في عولمة الأخلاق الفاضلة، والوعي بالتحديات الأخلاقية الكبيرة التي تواجه مجتمعات العالم اليوم، والاقتناع بأن التغيرات اليوم أصبحت أسرع من السرعة ذاتها، وصار واجبًا القيام بتحديث الأطر الأخلاقية التي توجه سلوك الناس. ولا عيب أن نقول إن الفتوى الدينية يلزمها أن تواكب وتتماشى مع هذه التسارعات والتطورات والتحديات، وفق مبادئ إسلامية متفق عليها، وقيم إنسانية يتشارك الناس فيها. وعلى المتصدرين تقديم فتاوى وإجابات وحلول عملية متوازنة، تحقق الاستقرار والتنمية المستدامة، وتسهم في بناء مجتمعات أكثر عدالة وأخلاقية، وهو ما يمكن تسميته «الفتوى الرشيدة»، التي تحسن تطبيق النصوص الشرعية، ولا تطوعها، وتسمح بالسعة والرخصة، ولا تمنع الاستفادة منها.