صعوبتان جوهریتان تعترضان سلفًا كل محاولة التحديد موقف نجيب محفوظ الفلسفي، تتمثل أولاهما في أن نجيب محفوظ روائي، والرواية -بما هي كذلك- تقتلها الفلسفة، وتتمثل ثانيتهما في انتماء نجيب محفوظ إلى ثقافة أغلقت باب الاجتهاد الفلسفي منذ قرون عديدة، وأمست لا تطل على عالم مثلها مثل الغالبية الساحقة من ثقافات العالم الثالث، لا تطل على عالم الفلسفة، أي على عالم الحقيقة الكليمة، إلا من النافذة الضيقة للدين أو الأيديولوجيا: الدين باعتباره إيديولوجيًا الأزمنة السالفة، والأيديولوجيا باعتبارها دين الأزمنة الحاضرة.

ولعله مما يزيد الموقف تعقيدًا أن هذا الحصار للفلسفة بين الدين والأيديولوجيا ينزع على صعيد الثقافة العربية إلى أن يتلبس طابعًا أقوى إحكامًا وأشد احتباسًا ضمن الدائرة المغلقة بالنظر إلى المحاولات الجارية على قدم وساق في هذه الأيام، وبمباركة من قبل شطر واسع من الأنتلجانسيا العربية الامتثالية، لتحويل الدين نفسه إلى أيديولوجيا، ولكن هاتين الصعوبتين -وهنا المفارقة- هما اللتان تنقلبان في إنتاج نجيب محفوظ الروائي إلى سمتين إيجابيتين.

فمن جهة أولى اضطره التضاد المبدئي بين لغة الفلسفة المجردة ولغة الرواية العينية الى تطوير لغة روائية خاصة تعتمد اعتمادًا جوهريًا على التورية وتتجذر في الازدواجية الدلالية إلى حد ينعكس على بناء الشخصية الروائية بالذات، وتقدم لنا رواية حضرة المحترم نموذجًا مدهشًا على مثل هذه الازدواجية الدلالية الضاعفة، التي تفصح عن شيء من نفسها في عنوان الرواية بالذات، وهو العنوان الذي يحيلنا من جهة أولى إلى قداسة الوظيفة في أعرق دولة بيروقراطية في التاريخ -مصر- ومن جهة ثانية إلى وظيفة القداسة في مجتمع عريق أيضًا بنزعته الصوفية، كالمجتمع المصري في طوره الفرعوني والقبطي والإسلامي، فحضرة المحترم هو الموظف بألف ولام، ولكن حضرة المحترم هو أيضًا رجل الدين، أو بتعبير أدق المتصوف الذي لا يتردد في أن يقايض حياته برمتها من أجل لحظة «حضرة» واحدة.


أما العقبة الثانية المتمثلة باختناق الفكر الفلسفي بين طغيان العقل الديني وتضخم الخطاب الأيديولوجي فقد وجدت بدورها تثميرُا إيجابيًا في الممارسة الروائية لنجيب محفوظ، إذ أتاحت له أن ينجز هو الآخر في مجال الكتابة الروائية ضربًا من قطيعة ابستمولوجية، تمثلت بتلك النقلة النوعية من واقعية المرحلة الأولى مرحلة «زقاق المدق» و«بداية ونهاية والثلاثية»، إلى ما بعد واقعية أو رمزية أو ميتافيزيقية المرحلة الثانية، وهي المرحلة التي دشنها رسميًا بـ«اللص والكلاب» وبصورة شبه رسمية بـ«أولاد حارتنا»، والتي ما زالت تترى فصولا بدءًا بـ«الطريق والشحاذ»، ومرورا بـ«حكاية بلا بداية ولا نهاية»، و«قلب الليل»، وانتهاء بـ«ملحمة الحرافيش» و«رحلة ابن فطومة».

وبمعنى من المعاني، يمكن القول إن الروائي نجيب محفوظ قد سد، ابتداء من مرحلته الثانية -أو الفلسفية، كما يحلو لكثير من النقاد أن يقولوا- قد سد مسد الفيلسوف العجيب المستحيل الوجود «أو غير الممكن الوجود إلا بشروط قاسية، ومنها أن يكون محض فيلسوف لغة، كما هو شأن زكي الأرسوزي، أو كمال الحاج مثلا، أو محض فيلسوف بالمثاقفة أو حتى بالترجمة، كما هو شأن أصحاب تلك المذاهب التي عرفت في الفكر الفلسفي العربي المعاصر باسم الوجودية أو الجوانية أو الشخصانية الإسلامية». وبطبيعة الحال، لم يكن ثمة مناص من أن يدفع الروائي نجيب محفوظ، وهو يحاول القيام بعبء بعض من تلك المهمة التي لم يقم بها الفيلسوف العربي، ضريبة الفلسفة التي كانت في حالته مخففة، والحق يقال فهو لم يعرف مصير العزل والصمت الإجباري الذي عرفه مفكر مثل علي عبدالرازق، حاول أن يقوم بقسر بقراءة أولى ومتلعثمة لأبجدية العلمانية، كما لم يعرف مصير التراجع والاضراب الطوعي عن تطبيق منهج العقل والشك العقلي الجذري، الذي عرفه مفكر مثل طه حسين، بدأ حياته الفكرية بمحاولة إعادة النظر في مسلمات التاريخ العربي الإسلامي، وتابعها وختمها بتثبيت تلك المسلمات بمنأى عن كل حس نقدي، فكل الثمن الذي اضطر نجيب محفوظ إلى دفعه هو امتناعه عن نشر روايته «أولاد حارتنا» في مصر، وعن إدراجها في اللائحة الرسمية لمؤلفاته. وصحيح أنه وجد في الآونة الأخيرة من حاول تحريك القضية من جديد، واستعداء الناس على مؤلف تلك الرواية باعتباره سلمان رشدي مصر، ولكن هذه المحاولة وئدت في مهدها على ما يبدو بالنظر إلى سوء توقيتها: فقد جاءت في اللحظة نفسها التي تم فيها تكريس نجيب محفوظ عالميًا من خلال اختياره ليكون أول فائز عربي بجائزة نوبل للآداب، ولكن ما هي تلك المهمة أو بعض تلك المهمة التي حاول الروائي نجيب محفوظ أن يقوم بعبئها بالنيابة عن الفيلسوف العربي المستحيل الوجود؟.

1990*

* كاتب وناقد ومترجم سوري «1939 - 2016»