حين أَطلق فرنسيس فوكوياما نظريّته حول "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" (1992)، ثمّ أَطلق صمويل هانتنغتون نظريّتَهُ حول "صدام الحضارات" (1996)، اندلعت المناقشاتُ الفلسفيّة لأكثر من عقدٍ في شتّى أصقاع الدنيا حول ما ينتظر البشريّة. آنذاك، أجريتُ شخصيّاً مقابلةً مع المفكّر الفرنسيّ ورفيق تشي غيفارا في أدغال بوليفيا، ريجيس دوبريه. قال لي: "ما فعله فوكوياما - الأميركيّ من أصل يابانيّ - لكأنّه انعكاس للاضطراب في الوعي الذي أحدثته قنبلة هيروشيما في رأسه. وها هو يبشّرنا، لا بنهاية التاريخ، وإنّما بنهاية العالَم".

سألني "أنت الآتي من الشرق بتلك الأثقال اللّاهوتيّة اللّامتناهية، هل لك أن تقول لي أيّهما أشدّ هولاً على الوجود البشري: جنون الإيديولوجيا أم جنون التكنولوجيا؟". لم ينتظر ردّي. قال مُستطرداً "لا بدّ من أن يزداد الإيقاع الهيستيري للقوّة لتجد إمبراطوريّات القرن نفسها، في لحظةٍ ما، أمام فوضى أبوكاليبتيّة تودي بنا جميعاً إلى التهلكة".

ماذا تعني الفوضى الرّاهنة كنتيجة للصراع المتعدّد الأبعاد بين الإمبراطوريّات سوى أنّ هذه الإمبراطوريّات ذاهبة بخطىً حثيثة إلى القاع؟ دوبريه تحدّث عن صراع الحضارات، وصراع الإيديولوجيّات، وصراع الأسواق، ليقول إنّ المشكلة الآن هي في اللّوثة التوتاليتاريّة التي تتحكّم بالمسار الفلسفي أو بالمسار التاريخي للإمبراطوريّات. ريتشارد بيرل كان يقول في المحاضرات التي يلقيها في البنتاغون، إبّان عهد جورج دبليو بوش، "أميركا هي العالَم".. ماذا عن الآخرين؟


الأبالسة تقود الكرة الأرضيّة

من أطرف ما قيل في المشهد الدولي كلام لوزير الخارجيّة الفرنسي السابق أوبير فيدرين "صحيح أنّنا في زمن الأبواب المفتوحة والثقافات المفتوحة، لكنّنا، إنسانيّاً، في زمن القلوب المُقفلة، حتّى لنسأل ما إذا كانت الأبالسة، لا الفيلة، هي التي تقود البشريّة؟".

هل وصل العالَم فعلاً إلى هذه الحال من التردّي؟ غياب مُطبق للرؤية، وللرؤيا، ومن دون أن ندري ما إذا كنّا نجري، جينيّاً، إلى الحرب العالميّة الثالثة، أم أنّ الحرب العالميّة الثالثة هي التي تجري وراءنا؟

في كلّ الأحوال، لقد وصلتِ العلاقاتُ الدوليّة إلى درجة الصفر، ربّما ما تحت الصفر. الباحث الأميركي جوزف ستيغليتز (نوبل في الاقتصاد) سأل ما إذا كنّا سنُحدِث ثغرةً في هذا الخواء، بالقنبلة أم بالمعول؟

الكثير من مفكّري الغرب، وبينهم يهود، سألوا "هل يرى الأميركيّون ما فعله، وما يفعله منهجيّاً الإسرائيليّون بأهالي قطاع غزّة، وبأهالي الضفّة الغربيّة؟". لنتذكّر ما قاله الفيلسوف اليهودي الهولندي باروخ سبينوزا (1632 - 1677): "هؤلاء الحاخامات الذين يقولون إنّ رؤوسهم تمتلئ باللّه، إنّما رؤوسهم تمتلئ بالشيطان". أيّ فارق الآن بين الحاخامات والساسة والجنرالات في إسرائيل، سواء ارتدى الشيطان وجه بنيامين نتنياهو أم وجه إيتمار بن غفير، وسواء ارتدى وجه آرييل شارون أم وجه موشي دايان؟.. ولا تنسوا وجه غولدا مئير التي قال فيها فرنسوا ميتران "لكأنّها سقطت للتوّ من مؤخّرة يهوذا".

أسئلة أخرى حول تلك الإمبراطوريّة التي بالمدى العبقري للتكنولوجيا تمكّنت من تغيير مسار الأزمنة ومسار الحضارات، على الرّغم من ذلك، ظلّت بعيدة من أن تكون "إمبراطوريّة" أفلاطون، كما كان يحلم بنيامين فرنكلين، أو كما كان يتوقّع إلكسي دو توكفيل، بل لكأنّها إمبراطوريّة هولاكو، وهو يتقيّأ الصواريخ العابرة للقارّات.

إلى وقتٍ آخر، بل إلى زمنٍ آخر، لا مجال للخروج من الملكوت الأميركي أو من القدر الأميركي. حتّى الروس، وحتّى الصينيّون، وحتّى الإيرانيّون، يرون أنّ مستقبلهم في "وول ستريت"، لا في أيّ مكان آخر. المشهد أكثر من أن يكون سرياليّاً. الفيلسوف الأميركي توماس ناغيل سأل "لماذا يفترض أن يكون المشهد سوداويّاً إلى حدّ الشعور برقصة التانغو مع ... العدم؟".

نظريّة حرائق الغابات

الباحثون في المستقبل يلحظون أنّ القوى العظمى لم تصل، ومنذ أن وضعتِ الحربُ العالميّة الثالثة أوزارها، إلى مثل هذه الحال من الضياع، من دون أن يكون هناك من مجالٍ لتطبيق نظريّة رونالد ريغان حول "حرائق الغابات"، أي الحروب المُبرمَجة لأغراضٍ تكتيكيّة، أو لأغراضٍ استراتيجيّة، والتي بالإمكان السيطرة عليها. ما يحدث في أوكرانيا انعكاسٌ لمأزق تلك القوى. كذلك التجاذُب، بأشكاله المتعدّدة، بين أميركا والصين حول تايوان.

شيء يشبه سباق القطارات، كما رأى أحد معلّقي صحيفة "لوكانار أنشينه" الفرنسيّة الساخرة. سباق القطارات بدلَ سباق الخيول. هل هي اللّحظة الإغريقيّة في الحالة البشريّة الآن؟

نستذكر وصف المستشرق الأميركي برنارد لويس للشرق الأوسط: "عربة عتيقة تجرّها آلهة مجنونة". بالتأكيد الوصف ينطبق على كوكبنا الذي مَن يدري إلى أين يتدحرج الآن، وبوجود هيئة دوليّة (مجلس الأمن) باتت أقرب ما تكون إلى حلبة للصراع بالعكّازات الخشبيّة. إذ نتحدّث كثيراً عن الدور الأميركي، وعن المسؤوليّة الأميركيّة، في وصول البشريّة إلى هذا المفترق، فلكون الولايات المتّحدة هي الإمبراطوريّة العظمى الوحيدة حتّى الآن. لا مجال للانسحاب بذلك على روسيا التي تتلمّس بين الأمواج المتلاطمة طريقها الإمبراطوري، ولا الصين حيث التنّين يَنتهج استراتيجيّة التسلّل إلى أسواق العالَم، لا إلى... قضايا العالَم.

ألم يسأل المؤرّخُ الهولندي أور روزنّتال: "القَرن الأميركي أم العالَم الأميركي؟"؛ ليضيف "لم تَعُد أميركا، وبعد ظهور الشبكة العنكبوتيّة، وقد أَحدثت انقلاباً سوسيوثقافيّاً، وانقلاباً في الخيال، موجودة في زجاجة الكوكا كولا، أو في طبق الهوت دوغ، أو حتّى في سروال اللّيدي غاغا، بل هي موجودة، حتّى كقوّة ماورائيّة، في لاوعينا. لذا أرى أن نصفي، على الأقلّ، أميركي؛ والنصف الآخر أيّ شيء آخر. هذا ما ينطبق على المتشرّد عند سفوح الهملايا، مثلما ينطبق على ركّاب العربات المطهّمة على أرصفة البيكاديلّلي أو على أرصفة الشانزليزيه".

ما قاله الفرنسي ألتوسير

هنا نستعيد رؤية الفيلسوف الفرنسي لوي ألتوسير الذي قال منذ نحو نصف قرن: "لعلّنا حيال مشكلة أنثروبولوجيّة، ولا بدّ من أن تُثير الاستغراب. إمبراطوريّة تضمّ كلّ أنواع البشر؛ على الرّغم من ذلك، تبدو وكأنّها تجهل كليّاً ما هُم، ومَن هُم الآخرون. ما يُمكن قوله للإمبراطور الذي يقيم في الطبقة العليا من الكرة الأرضيّة أنّنا لسنا بالخراف الضالّة، ولا بالثيران الهائجة. نحن أنتم، وأنتم نحن بشكلٍ أو بآخر". ولكن كماركسيّ، بـ "بوعيٍ وجوديّ يتعدّى كلّ الإيديولوجيّات"، وصلتُ إلى هذه الحقيقة. لا تتصوّروا أنّ الأميركيّين أقلّ بؤساً، وأقلّ يأساً، ممَّن جعلوا منهم كائنات بائسة ويائسة".. متسائلاً بذهول "لماذا يصرّ الذي هناك، وقد نصَّب نفسه مَلكاً على البشريّة، ومنذ آدم وحتّى الآن، على إدارة العالَم بالطريقة التي يُدار فيها الجحيم؟ وحين أصرخ في كتبي، فلكي أقول فقط إنّنا وُجدنا على هذه الأرض، لا لكي نصنع منها الجحيم..".

ولكن ألَم تلحظ الأبحاثُ التي تُنشر في الدوريّات الأميركيّة "أنّنا مضينا بعيداً في جاذبيّة التكنولوجيا، حتّى أنّ مليارات الدولارات تُنفق على القطاعات الخاصّة بالذكاء الاصطناعي الذي قد تكون بلادنا ضحيّته الأولى، لأنّنا لا ندري إلى أيّ نوع من الكائنات الغرائبيّة قد نتحوّل بين يوم وآخر". هنا المفترق البشريّ الأكثر مأسويّة في التاريخ.

قيل "لكأنّ آدم هبط من الجنّة من دون مظلّة إلى الأرض لتتحطّم عظامه...". لكن لن تكون عظامنا فقط هي التي تتحطّم.

إذا كان ول ديورانت قد توقّف عند "قهقهات التاريخ" كصورة إشكاليّة لقهقهات الشيطان، كون التاريخ هو مَن "يبتكر" الإمبراطوريّات، ولا يلبث أن يتقيّأها.. فأيّ إمبراطوريّات يصنع التاريخ الآن؟ روسيا والصين والهند على اللّائحة. ولكن ثمّة مسافة قد تكون مسافة ضوئيّة تفصل بين الإمبراطوريّة الأميركيّة وأيّ إمبراطوريّة أخرى.

إمبراطوريّة ما فوق بشريّة

هذا ما حمل الروائي الأميركي إدموند وايت على التساؤل حول ما إذا كان ذاك "الافتراق الدراماتيكي والمُلتبِس بيننا وبين الآخرين، هو عامل جوهري في بقائنا أم في فنائنا؟". خلص إلى هذه النتيجة المثيرة بالقول "إنّنا قد نَجِد أنفسَنا فجأة على تخوم العصر الحجريّ. لهذا علينا ألّا نَدَع الإنسان يتحوّل إلى تمثالٍ رخاميّ في حَرَم الجامعات. ليست الصين مَن يفترض أن تخيف الأميركيّين بنهايتهم كحطامٍ بشريّ، ولا روسيا بطبيعة الحال، بل هي أميركا عينها".

ألان بيرفيت، وزير العدل في عهد شارل ديغول، وضعَ في العام 1973 كتاباً بعنوان: "حين تستيقظ الصين ... يرتجف العالَم". سبقه إلى قول ذلك نابليون بونابرت، على الرّغم من استنتاجه "لن تكون هناك في القرن العشرين سوى مَملكتَيْن أميركا وروسيا". لو تناهى إلى الاثنَيْن رأي جون بولتون بالصين، و"أنّها تحاول بــ "الشعوذة" لا بالعبقريّة أن تَصنع إمبراطوريّة.. وعلينا (والكلام لبولتون) أن نتصوّر أيّ عالَم كاريكاتوري إذا ما حلّت الصين محلّ أميركا في قيادة العالَم؟".

الشرق الأوسط بالتقاطعات الإيديولوجيّة والتاريخيّة العاصفة، هو مركز الاختبار، وربّما مسرح العمليّات الرئيس في صراعات القوى العظمى. هذه كانت نظريّة ديك تشيني حين كان نائباً لجورج بوش الابن، وإلّا لماذا الخشية الأميركيّة من اندلاع حرب كبرى في المنطقة، حتّى أنّ الكاتب بن نورتون يرى في ذلك "إضراماً للنار في ملابسنا الداخليّة". هذا ليس رأي البنتاغون الذي يرى أنّ الشرق الآسيويّ هو حلبة الصراع. ماذا عن الشرق الأوروبي، وحيث الدببة القطبيّة انتقلت من الاغتسال بالثلوج الى الاغتسال بالنيران؟

من عقود تحدَّث وزير الدفاع الأميركي السابق روبرت ماكنمارا لـ "يو. أس. توداي" عن "الاحتقان النوويّ" متوجّساً من ألّا تقلّ تداعيات هذا الاحتقان كارثيّة عن تداعيات الانفجار النووي، ومتسائلاً ما إذا كان إرساء قواعد للنظام الدولي يقتضي بين الحين والآخر اللّجوء إلى القنبلة النوويّة.. أين؟ في كييف أم في شانغهاي أم في طهران؟

عالَم على حافّة الهاوية. أيضاً إنّه اللّعب على حافّة الهاوية. لا بدّ من يالطا أخرى (1945) ومن وستفاليا أخرى (1648)، أو من فيينّا أخرى (1815)، أو من هلسنكي أخرى (1975). لكنّ الحرائق هي التي تشقّ الطريق إلى الردهة الديبلوماسيّة. ثمّة جثث كثيرة على هذه الطريق؛ بيد أنّ البشريّة على شاكلة الكوكب الذي تعيش فيه، تدور حول نفسها، ليبقى كلّ شيء.. أجل كلّ شيء.. في عنق الزجاجة، ما حمل دومينيك دو فيلبان على القول "لا أنبياء هناك يُمكن أن يقودوا البشريّة إلى الخلاص". إذاً، هو دوران أبديّ داخل هذه الدوّامة. لكنّها في الكثير من الأحيان هي الدوّامة الدمويّة.. أو المتاهة السوداء.

غريب أن يُكتب في "الفورين أفيرز" عن "أزمة الإمبراطوريّات" وأنّها سباق قطارات لا سباق خيول. لا خطوة الى الوراء (وربّما خطوات) ولا خطوة الى أمام، حيث الاجترار، وعلى هذا النحو السيزيفي الذي لا يُمكن أن يقدّم حلولاً. لا بدّ من التغيير، ولو انطلاقاً من أيّ مكانٍ في العالَم. بنيامين نتنياهو، ومن تحت الركام النفسانيّ (على الأقلّ) الذي أحدثته عمليّة "طوفان الأقصى"، وَعَدَ وتوعّد بتغيير الشرق الأوسط.. ليسقط، وقَبل نهاية المطاف، في وحول أو في نيران الشرق الأوسط.

أيّ تغيير بنيوي، وفي أيّ بقعة من الأرض، يقتضي عمليّة جراحيّة دقيقة ومعقّدة. ولكن (يا للهول!) قد تكون قاتلة.. قاتلة للجميع. ولكن، كما سأل أندريه مالرو: "مَن يصل، أوّلاً إلى آذان الملائكة: صراخ الأقوياء أم أنين الضعفاء؟". انتبهوا، أضاف صاحب "الشرط الإنساني"، "إنّ الأرض ضاقت ذرعاً بغباء الآلهة".. يقصد غباء الأباطرة، أولئك الذين يعتبرون أنّ قوّةً ميثولوجيّة عَهدت إليهم إدارة التاريخ، وحتّى إعادة تشكيله، ذهبوا كلّهم حفاة، وربّما عراة أيضاً إلى قبورهم. من هنا كان الكلام القديم لوزيرة الثقافة اليونانيّة، والنجمة الهوليوديّة السابقة ميلينا ميركوري: "لا ندعوكم إلى ارتداء مسوح القدّيسين، ولكن خذوا بالاعتبار أنّه يحقّ للآخرين أن يكونوا بشراً، لا علفاً لموائدكم، ولا وقوداً لمداخنكم".

منذ أيّام جواهر لال نهرو، ومن بعده نسبيّاً، ابنته انديرا غاندي، لا ديبلوماسيّة هنديّة على المستوى الدولي (المشكلات الداخليّة الأبديّة والمشكلات الخارجيّة بين التوجّس الباكستاني والتوجّس الصيني).

هنري كيسنجر الذي فتح بديبلوماسيّة البينغ بونغ أبواب بكين أمام ريتشارد نيكسون، نصح إدارة جو بايدن، بعدما لاحظَ، منذ الأشهر الأولى للحرب في أوكرانيا، أنّ الصراع بين واشنطن وموسكو لا بدّ أن ينتهي عند تلك العبارة التراجيديّة "كانت هناك دولة وتُدعى أوكرانيا"، بأنّ "شي جين بينغ" هو الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يُقنع فلاديمير بوتين بأنّ يحدّ من شروطه التي تؤثّر على الوضع المعنوي وحتّى الاستراتيجي للولايات المتّحدة. بايدن مستعدّ للتوقيع حتّى بأنفه.

ديبلوماسيّة الثعابين

هذا النَّوع من الديبلوماسيّة كان زبغنيو بريجنسكي قد وصفه بـ "ديبلوماسيّة الثعابين". العدوّ العسكري هنا هو في الوقت نفسه الوسيط الديبلوماسي. أيّ لغة تتكلّم الثعابين؟ لغة الدهاليز، لا لغة الخنادق، ولا لغة الأرائك الوثيرة. أوّل مَن ابتدعَ هذا النَّوع من الديبلوماسيّة كان النمساوي كليمنت ميترنيخ، ووزير الخارجيّة الفرنسي شارل تاليران (الشيطان الأعرج) في مؤتمر فيينّا في العام 1815، حيث تمَّ صوغ معادلة جديدة للعلاقات بين القوى الأوروبيّة بعد الحقبة البونابرتيّة، ولكن ليسقط كلّ شيء بين الشاربين الفولاذيّين لأوتو فون بسمارك في العام 1870 في الألزاس واللّورين.

إذا كان الشرق الأوسط أرض البدايات، فليس من الضروريّ أن يكون أرض النهايات في تأويلٍ لاهوتيّ لبعض النصوص أو لبعض الوقائع. لنتوقّف هنا عند الأفكار التلموديّة التي تجول في رأس بنيامين نتنياهو الذي أَلمحت المعلومات الديبلوماسيّة الأوروبيّة إلى أنّه سأل أنتوني بلينكن، في أثناء إحدى زياراته لتلّ أبيب: "حين ألقيتم القنبلة النوويّة على هيروشيما، قال الجنرال دوغلاس ماك آرثر، من هنا يبدأ التاريخ الآخر للعالَم. ألا تعتقد معي أنّ الشرق الأوسط بات بحاجة إلى التاريخ الآخر؟".

سؤال بخلفيّاتٍ إيديولوجيّة واستراتيجيّة. ما يُنشر من مقتطفات لأبحاثٍ توضع في "معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى"، القريب من اللّوبي اليهودي، يشير إلى أنّ المُعادلات الرّاهنة في الشرق الأوسط قد شاختْ وبلغتْ حدود الهلهلة. لا بدّ من إحداث واقعٍ جديد، ولو اقتضى ذلك تغييراً جراحيّاً في الخرائط باستعادة مشروع برنارد لويس الذي وافقَ عليه الكونغرس في العام 1993، مع وجود بعض التعديلات التي استحدثها منظّرو المُحافظين الجُدد.

تبعاً لِما يراه الباحثون، لا بدّ من خطّة وقائيّة عاجلة، وإن كانت مؤلِمة لبعض الأطراف (جثث مَنْ وخرائط مَنْ يُفترض أن تَسقط؟)، وإلّا فإنّ التداعيات الزلزاليّة (أو الهزّات الارتداديّة) لأحداث غزّة، لا بدّ أن تُحدِث ارتجاجاً في الدور وصولاً إلى الوجود الأميركي.

المُثير أنّ هناك مَن لا يزال يُعاود الحديث وسط هذه الضوضاء، بما فيها الضوضاء الدمويّة، عن "ملء الفراغ". أيّ فراغ ذاك الذي تذرَّع به جون فوستر دالاس لإطلاق "مبدأ أيزنهاور" في العام 1957، وليبني ستاراً حديديّاً في وجه التسونامي الشيوعي. الآن، لا شيء من ذلك. والجواب يُفترض أن يكون هكذا: العرب، كقوّة ديموغرافيّة وجغرافيّة، يُفترض أن يكونوا هُم مَن يملأون الفراغ، إذا كان هناك حقّاً من فراغ.

إذ يبدو متعباً، وفي حالةٍ من التيه، وإذ يشكو الأوروبيّون من التبعات الاقتصاديّة والاجتماعيّة المروّعة للحرب في أوكرانيا، تبدو التفاعلات الجيوسياسيّة والتفاعلات الجيوستراتيجيّة في ذروتها، بتأثيراتها الغامضة على مستقبل "الطرق المؤدّية إلى الحياة" في الشرق الأوسط، بحسب المُستشرق المعروف دومينيك شوفاليه. ولكن، هل توجد تلك الحال العربيّة أو الحال الفلسطينيّة التي تتلقّف أحداث غزّة، بكلّ جوانبها، لتوظيفها في بناء تلك الطرق؟... لا نعتقد ذلك.

إذاً، هل يكون الشرق الأوسط، لا الشرق الأوروبي، ولا الشرق الآسيوي، ولا الشرق الأوروبي، مسرح العمليّات الكبرى والصراعات الكبرى، منتصف القرن؟ الأحرى، هل يكون ضحيّة تلك العمليّات وتلك الصراعات؟

بارانويا الإمبراطوريّات. الإمبراطوريّات الضائعة على خطّ النهاية. لعلّ الردهة الديبلوماسيّة بحاجة إلى كميّةٍ إضافيّة من الجثث لكي تفتح أبوابها.. أيّ جثث؟ ما من مرّة اكترثت الإمبراطوريّاتُ بمثل هذا السؤال لكي تجيب..

*كاتب ومُحلِّل سياسي من لبنان

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.