صنّفته مجلّة «فورين بوليسي» الأميركيّة في العام 2014 واحداً من أفضل 100 مفكّر في عالَمنا الحديث، وذلك على الرّغم من انحيازه إلى هويّته الروسيّة ودعوته إلى ما سمّاه «الحركة الأوراسيّة الدوليّة» التي تَستهدف بدورها استحداث قوّة روسيّة عظمى قوامها اندماج روسيا مع الجمهوريّات السوفياتيّة السابقة في اتّحادٍ واحد يُواجه القوى الكبرى في الغرب الأميركيّ والأوروبيّ مُجتمِعاً. ومن هنا جاء لقبه بـ «العقل الاستراتيجيّ للرئيس فلاديمير بوتين»، وكان أحد مشجّعيه الكبار على مُواجهة الغرب بقوّة في أوكرانيا، وفتْح الدفرسوار الأوكرانيّ، بخاصّة بعد الانسحاب الأميركيّ من أفغانستان في أغسطس من العام 2021.

إنّه ألكسندر دوغين، الفيلسوف والمؤرِّخ وعالِم الاجتماع الروسي والمستشار السياسي وحتّى العسكري للكرملين، أنّى كان رأس السلطة فيه.. بوتين أو غير بوتين. ومن هنا وَصَفَهُ بعض الأميركيّين بأخطر فيلسوفٍ في العالَم، ووجّهوا له رسالةَ تهديد غير مباشرة بالقتل من خلال تفجير سيّارة ابنته داريا دوغين التي تقطّعت إرباً إرباً بمجرّد أن أدارتْ محرّك سيّارتها بالقرب من العاصمة موسكو. وأمام هذا المشهد الدرامي المروّع له كأب، قال دوغين والدموع تنهمر من عينَيْه: «وصلت رسالتكم.. نعم وصلت.. غير أنّكم لم ولن تُدركوا مبتغاكم البتّة.. فوطني روسيا ورسالته السلميّة والإنسانيّة والحضاريّة دائماً أكبر منكم».

نظريّته السياسيّة الرّابعة


بعدما خاضَ كثيراً في قراءة النظريّات السياسيّة الواقعيّة الآتية ومناقشتها: الفاشيّة، الشيوعيّة واللّيبراليّة، أدرك ألكسندر دوغين أنّها كلّها فشلت، بخاصّة بعدما تزعّمت الولاياتُ المتّحدة الأميركيّة تيّار اللّيبراليّة في العالَم الحديث وانتصرت من خلاله على الفاشيّة في العام 1945، وكذلك انتهزت فرصة سقوط الاتّحاد السوفياتي ومعه المنظومة الاشتراكيّة الأوروبيّة برمّتها في العام 1991 لتقول إنّها انتصرت على النظام الاشتراكي، واستطراداً الشيوعي الذي تداعى إلى غير ما رجعة.

على أنّ اللّيبراليّة الأميركيّة والغربيّة بعامّة، ومن منظور دوغين نفسه، باتت تُواجِه هي الأخرى اليوم أزماتٍ متفاقمة تُنذر بنهاية تجربتها التي احتكرتها الرأسماليّة المتطرّفة، ولاسيّما في الولايات المتّحدة، حيث باتت تتفلّت من التفكير العقلاني وحاكميّة العقل. وعليه باتت النظريّات الثلاث بحكم الميّتة الآن. لذا وُجب في رأي مفكّرنا الروسي الكبير التركيز منذ اللّحظة على الوعي الإنساني العميق والمتجاوز، والذي لا يُمكن للتكنولوجيا أن تهمّشه البتّة.

وفي ضوء أنّ الوعي الإنساني يختلف بين ثقافة وثقافة وحضارة وأخرى، يقترح دوغين اللّجوء إلى التعدّديّة القطبيّة وقيام عالَم تعدّدي لا تتحكّم فيه قوّة عظمى واحدة على غرار ما هو سائد حتّى اليوم، ونعني هنا تسلُّط الولايات المتّحدة على العالَم، وبذلك يبلْور نظريّته السياسيّة الجديدة التي يسمّيها: «النظريّة السياسيّة الرّابعة». كما يَقترح ضرورة أن تقود روسيا الاتّحاد الأورو - آسيوي لمُواجَهة التفرُّد الأميركي. ومن هنا نراه وقد شاركَ الرئيس الروسي بوتين في تأسيس الحركة الأورو - آسيويّة الدوليّة لترجمة هذا الهدف الاستراتيجي. كما انبثقت من هنا أيضاً فكرة السيطرة الروسيّة على شبه جزيرة القرم التي تمّت في شهر مارس (آذار) من العام 2014 بعدما كانت جزءاً من الأراضي الأوكرانيّة منذ العام 1954 ضمن الاتّحاد السوفياتي السابق. وهو يرى بأنّ خصْم الاتّحاد الأورو - آسيوي القارّي الجديد، ليس الولايات المتّحدة الأميركيّة فقط، وإنّما دول حلف شمال الأطلسي إيّاها ومن بينها، بالإضافة إلى الولايات المتّحدة، بريطانيا وفرنسا وكندا؛ وثمّة اتّفاق أمني وعسكري يقضي بمساعدة بعضهم بعضاً في حال تعرّضهم لأيّ هجومٍ عسكري أو اختراقٍ أمني.

واقعٌ اجتماعيّ وسياسيّ جديد كليّاً

بعد قراءتنا العديد من الكتب والأبحاث والدراسات التي وضعها ألكسندر دوغين، عرفنا أنّ الرجل بات يرى أنّ العلوم السياسيّة، بخاصّة في مرحلة «ما بعد الحداثة»، تَنظر إلى شخصيّة المثقّف باعتبارها العنصر الرئيس والمركزي للواقع السياسي. وعلى الرّغم من أنّه يبدو واقعاً واضحاً ومفهوماً، لكنّه في الحقيقة واقعٌ سياسي واجتماعي جديد كليّاً؛ فالمثقّف أو المفكّر في عصر «ما بعد الحداثة» مختلف بصورةٍ نوعيّة عن أسلافه في حقبة «الحداثة». فهو مثلاً لا يبحث عن المعنى، بل إنّه يَستخدم المعاني ويعمل عليها. وهو متحرّر من الدلالات الأخلاقيّة والجماليّة. إنّه على غرار «دي. جي.» (منسّق موسيقي) يدمج نماذج دلاليّة مختلفة، نظريّات وفرضيّات متباينة في إيقاعٍ فكريٍّ عامّ. وهو يهتمّ بمختلف النُّظم الدلاليّة، ولكنّه في الوقت نفسه منفصل عن كلّ واحدة منها. وهو بخلاف المثقّف الحداثي، غير مبالٍ بتلك الحماسة في المنظومة الفكريّة، لأنّه يدرك وبصورة عموميّة، نماذج فكريّة مختلفة، وربّما متناقضة في بعض الأحيان، من دون أن يُعلن عن حكمٍ تفضيلي تجاه محتوى أيٍّ منها؛ أي أنّه على اطّلاعٍ أكثر ممّا هو مدعوّ إلى المُشارَكة، وعلى الأرجح، على دراية وعِلم، أكثر من أنّه يثق.

وللضرورة القصوى، يُفرّق ألكسندر دوغين بين المفكّر والعالِم؛ فالعالِم مثلاً يبحث عن الحقيقة، ويَستثمر طاقته الحياتيّة في إدراك الحقيقة كما هي؛ في حين أنّ المفكّر في حقبة «ما بعد الحداثة» يَنظر إلى «الحقيقة» على أنّها شيء زائد، ولذلك يقوم بوضعها خارج قوسَيْن، بمعنى أنّه يُخرجها من المشهد. إنّها مجرّد عائق وعثرة. وعليه لا تعود الحقيقة والبحث عنها من الأمور الفاعلة وذات القيمة، بل إنّهما يصرفان الانتباه عمّا هو أساسي؛ فالحقيقة العلميّة لا تعني المفكّر «ما بعد الحداثي»؛ وهو يتعامل معها بطريقة «السخريّة» فقط. كَتَبَ فريدريك نيتشه يقول إنّ «آخر البشر» ترمش أعينهم عند لفظ كلمة «الحقيقة»، ويقولون: ما هي هذه الحقيقة؟.. لا بدّ أنّهم يتثاءبون على الأغلب.

باختصار، ومن وجهة نظر ألكسندر دوغين إنّ المفكّرين «ما بعد الحداثيّين» يتميّزون بالصفات الأساسيّة التالية: إنّهم مُشتّتون ومُتشظّوّن ومُتكاثرون من ناحية. كما أنّهم متفرّدون أو معزولون من ناحية أخرى. وأمّا التشتّت عندهم فيعني أنّهم غير مندمجين في أيّ بِنى. يُمكن للمفكّر أن يشغل منصباً إداريّاً عالياً جدّاً، ويُمكنه ألّا يشغل مثل ذلك المنصب قطّ. يُمكنه أن يكون مندمجاً في بِنى اجتماعيّة معيّنة، وقد يكون موجوداً على أطرافها وهامشيّاً بالنسبة إليها، لكنّ هذا لا يُغيّر من وظيفته: فهو يبقى الصانع الرئيس للقرار في «ما بعد الحداثة» في كلا الحالَيْن. وهو يُمثّل الفرديّة في المنظومة، بينما على الأطراف يُمثّل المنظومة ككلّ.

ويرتبط تفرُّد المفكّر في «ما بعد الحداثة» بأنّه لا يُعتبر مُمثلّاً لأحد باستثناء نفسه هو. إنّه لهذا الغرض مخصّص لأن يكون كائناً عقلانيّاً و»منسّقاً موسيقيّاّ» يتلاعب بالمعاني. لا يوجد خلفه طبقة، ولا مصالح، ولا قواعد. إنّه بناءٌ فوقي مستقلّ تماماً، وخالٍ من أيّ أصل أو أساس، مثله مثل «السعر» في سوق الأسهم، ذلك «السعر» الذي لا يأخذ بعَيْن الاعتبار سوى اتّجاهات السوق، ولكنّه في الوقت نفسه يقوم بخلْقها. فإذا ما قمنا بإزالته (بشكلٍ نظريّ محض) فسوف نفصل الضوء والصوت عن التاريخ السياسي (عن ما بعد التاريخ).

«ما بعد الحداثة» في خدمة الفكرة الأوراسيّة

ما نملكه إنّما يقوم على أساس اتّجاه الطرد المركزي؛ إلّا أنّ هذا كلّه من قَبيل «الحداثة»، وهو من اختصاصها. الدول، الأُمم والقوميّات ومعها مختلف النّظم الاقتصاديّة والعملات واللّغات وهكذا دواليك، حيث يتمّ إخراج كلّ ذلك إلى خارج المشهد أو وضْعه خارج القوسَيْن.

بيد أنّنا سوف ننجح في تحقيق الاندماج الأوراسي بمنتهى السهولة، ومن دون أيّ متاعب وصعوبات تُذكر إذا ما طبَّقنا منهج «ما بعد الحداثة». وهذا يتطلّب أوّلاً، دمْج المفكّرين في بلدان رابطة الدول المستقلّة (أورو -آسيا). وثانياً، إطلاق قناة تلفزيونيّة تكامليّة موحّدة، حيث ستستعرض الجماهير التلفزيونيّة في أوراسيا «مسرحيّة الاندماج» بشكلٍ مستمرّ ودونما انقطاع. وثالثاً، تسجيل النطاق (أورو - آسيا) على غرار رمز «الاتّحاد السوفياتي» (سوفيت يونيون) الذي ما زال قائماً، في حين أنّ الاتّحاد السوفياتي في حدّ ذاته لم يَعُد موجوداً.

وعن العولمة كمشروع «ما بعد حداثي»، يَعتبر ألكسندر دوغين باختصار أنّ العولمة تُعتبر حقيقيّة بالقدر نفسه الذي تُعتبر فيه «ما بعد الحداثة» حقيقيّة. والعولمة واقعيّة تماماً، على ما يبدو، عند مستوى الاحتكاك بين المفكّرين العلميّين.. لماذا؟ لأنّ عددهم قليل جدّاً، ولا يمثّلون سوى أنفسهم ويُمكن جمْعهم في أيّ عاصمة من عواصم العالَم.

والعولمة على مستوى الجماهير التلفزيونيّة، هي حقيقة متكاملة أيضاً، ذلك لأنّ مسرحيّة وسائل الإعلام الجماهيري تصبح عالميّة بمنتهى السهولة: «سي. إن. إن»، «بي. بي. سي.»، «فوكس نيوز»... إلخ. هي واقعيّة وتتلقّاها الجماهير التلفزيونيّة بواقعيّة في أيّ زاوية من الكرة الأرضيّة. وهي تُدندن بالأغنية نفسها. كما أنّها تَستهلك الماركات نفسها من الشامبو وأحمر الشفاه، وتُشاهد المباريات نفسها؛ كما تُقدّم التعازي للفئات إيّاها. تبقى الحشود مختلفة، ولكنّ جماهير التلفزيون تندمج معها. لقد أصبحت العوْلمة هنا إذاً حقيقةً واقعة. وعليه لا حاجة بعد ذلك إلى الحديث عن الشبكة، فقد تمَّ تصميمها كي تكون عمليّة تفاعليّة على مستوى الكرة الأرضيّة؛ وهذا الأمر هو ما يؤلّفها اليوم، إذ إنّ الشبكة تُعرَّف بأنّها «الورلد وايد»، أي العالَم الواسع، أو بالأحرى العالَم كلّه.

أمّا كون الواقع لم يُصبح معوْلماً البتّة، ولا يريد أن يُصبح كذلك، فهذا أمر لا قيمة له على الإطلاق: الواقع هو من بقايا «الحداثة». في حين أنّ «ما بعد الحداثة» تتعامل مع أدواتٍ افتراضيّة. ومن الآن فصاعداً، سوف يكون واقعاً ما يعرضه التلفزيون فقط. أمّا ما لا يقوم التلفزيون بعرضه، فلن يكون موجوداً بكلّ بساطة.

*باحثة وكاتبة من لبنان

* ينشر بالتزامن مع دورية افق الإلكترونية