لم يتجاوز مؤلف كتاب «الاستشراق» إدوارد سعيد، حدود الحقيقة عندما أعلن واقع مشروع الاستشراق الأكاديمي، وكيف صنع عالمًا متخيلًا لا وجود له يسمى الشرق. لم يقتصر تأثير الاستشراق على عالم الغرب، ومؤسساته الأكاديمية ومراكزه البحثية. فتأثير الاستشراق على الشرق وسكانه كان أكثر عمقًا.

الصورة النمطية في أذهان العرب عن شخصيات علمية كابن سينا والفارابي والرازي توضح أن قوة نفوذ الاستشراق في مجالنا الفكري (مجال العقل العربي) قوية ومهيمنة، حتى أصبحت نتائجه تعامل معاملة المسلمات والحقائق. عندما تسمع اسم ابن سينا، بلا شك فأول ما يطرأ على الذهن تلك الصورة النمطية لعالم وطبيب، له إسهامات علمية فتحت الآفاق لكل أطباء العالم. وبفضل اطلاعه على تراث أرسطو وبقية كتب اليونان أصبح داهية زمانه. عبقرية ابن سينا كانت نتيجة طبيعة لترجمة كتب فلاسفة اليونان، وبالتالي فهو محسوب على تراث أوروبا وليس العرب. وكل منجز يحققه ابن سينا هو امتداد لمنجزات الحضارة الغربية وليس للحضارة العربية الإسلامية أي فضل عليه.

طبعًا صورة الطبيب الفذ صاحب المنجزات العلمية الخارقة هي في الحقيقة متخيلة غير حقيقية. فابن سينا كان ناشرًا للخرافة ومؤسسًا للجهل، وفاتح الباب على مصراعيه للغيبيات والعلوم ذات الطابع الأسطوري،و كما وصفه محمد عابد الجابري (أكبر مكرس للفكر الغيبي الظلامي الخرافي في الإسلام). وللجابري وجهة نظر في ظني أنها تكشف الجانب المستور من فكر ابن سينا. ودعونا نطرح بعض الاقتباسات من أقوال الجابري التي يقول في أحدها: «لقد كرس ابن سينا بفلسفته المشرقية اتجاهًا روحانيًا غنوصيا كان له أبعد الأثر في ردة الفكر العربي الإسلامي وارتداده من عقلانيته المنفتحة إلى لا عقلانية ظلامية قاتلة». وفي قول آخر للجابري: «إن ابن سينا يتبنى الهرمسية بكاملها، بتصوفها وعلومها السرية والسحرية.. وفلسفته المشرقية تكرس اللامعقول بمختلف ألوانه وأشكاله.. وهو بكل تناقضاته يسجل لحظة انفجار تناقض العقل العربي مع نفسه».


كيف صُنعت عبقرية ابن سينا؟ وكيف أصبحت صورته المتخيلة، صورة الطبيب الفذ صاحب المنجزات العلمية غير المسبوقة، تهيمن على عقول العرب، خاصة لدى المثقفين والمتعلمين. كيف أصبح تأثير الاستشراق وكتب المستشرقين والدعاية التي صنعوها لابن سينا بهذه القوة والعمق؟ اليوم وفي مختلف مدن العالم العربي هناك مراكز طبية متقدمة تحمل اسم ابن سينا، وجامعات عربية عريقة ومصانع للبتروكيماويات والمستحضرات الطبية والصيدلانية تتزين باسمه. قدم إدوارد سعيد في كتابه «الاستشراق» دعوة مفتوحة لعموم مثقفي العالم بإعادة النظر حول مشروع الاستشراق، وكيف تسبب في خلق عالم متخيل لا يعبر عن حقيقة الشرق. وأثر الاستشراق العميق في الثقافة العربية، يمكن ملاحظته في الصورة النمطية الراسخة في أذهاننا عن شخصيات ارتبط اسمها بالعلم كابن سينا والرازي والفارابي. يمكن تفهم دوافع الاستشراق من وراء خلق صورة زاهية لا تخرج عن جملة من التحيزات (عرقية ثقافية دينية)، ولكن ما يثير الحيرة والاستغراب تبني المثقف العربي هذه الصورة النمطية وكأنها حقيقة لا تقبل الشك، دون تعريضها للاختبار والنقد. بسبب الاستشراق، انقسم مجال العلوم في التراث العربي الإسلامي إلى جانبين (مظلم غير عقلاني) وآخر (تنويري وعقلاني). والتقسيم مبني على تحيزات ثقافية ودينية. فابن سينا والفارابي لديهما امتداد ديني وثقافي للموروثات اليونانية، وبالتالي هما يمثلان جانب التنوير والعقلانية في الخطاب الاستشراقي. ومثل هذه الصور المتحيزة يجب أن يعيد المثقف العربي قراءتها، وتنقيحها من آثار الاستشراق وما يتضمنه من تحيزات ثقافية.