اقترب سعد من سور المقبرة الشرقية القديمة، فتمتم بدعاء مأثور لم يتمتم به من قبل، إذ كان المشهد أكبر من قدرة عقله الشاب على استيعابه؛ الجثث تشق القبور وتخرج حاملة أكفانها، مادةً يدها بها، وكأنها تسلمها للمجهول... فزع سعد من نومه، ونهض ليأخذ شربة ماء من «الزير» قرب فراشه في «الليوان» ليبل حلقه المتيبس من هول هذا الكابوس. شق الصمت صوت الأذان الأول للفجر ساكبًا في روحه بعض الطمأنينة، انطلق راكضًا إلى الجامع، ليعبّر له الإمام رؤياه، كان أبو إبراهيم إمامًا وخطيبًا للجامع وتسلم مهام الأذان فيه بعد موت المؤذن في ظروف غريبة، شك القوم أنها آثار الطاعون، والتي تبدأ أعراضه بصعوبة في التنفس، وحرارة لا تخمد مهما حاولوا مغالبتها بالماء، وقيء مستمر، مع نغزات ألم لا تطاق في كل أنحاء الجسم، ثم يتحول الوجه إلى لون بني داكن، قبل أن يسوَّد الجسم بأكمله قبيل تلاشي الروح، وكأن المرض يأبى إلا أن يلون بالسواد الموت الذي ينثره يمينًا ويسارًا.

أدرك سعد أبا إبراهيم وهو في باب الجامع يهمُّ بالخروج، وقص عليه الحلم، فاستند أبو إبراهيم على الباب الخشبي للمسجد قبل أن يتهاوى على الأرض باكيًا مسترجعًا، فقد فهم أبو إبراهيم بقوة تعبيره للرؤى أنهم مقبلون على أيام عصيبة، وأدرك أن الجثث خرجت من أجداثها لتمدهم بالأكفان، وتفسح القبور لمن سيحل بها قريبًا. مرت الأيام وتحققت الرؤيا، ثلاثة أشهر وها هو سعد يقف على قبر الرجل الطيب أبي إبراهيم، والذي توفي بعد شهر من تفشي الوباء.

لم تغادر بعد مخيلة سعد «سنة الجوع» التي حدثت قبل عشر سنوات من ذلك اليوم، حينما توفي والده جوعًا، وتذكر كيف تصارع مع ثلة من الناس لاختطاف قطع من بقايا الجيفة القابعة على قارعة الطريق في مدخل البلدة.


النعش الوحيد في الجامع تكسر من كثرة الجنائز التي تحمل عليه يوميًا، فتفتقت أذهان القوم عن استعاضة النعش بأبواب البيوت الخشبية فهي أقدر على احتمال الأثقال والاستخدام المستمر، واستخدمت الأسر المطارح والبطانيات لحمل موتاها إلى المثوى الأخير في الدنيا.

كان المرض لا يمهل من أصابه أكثر من يوم أو يومين، وتطوع الكثيرون في غسل الموتى وحفر القبور والدفن، لأن العدد فاق قدرات من يحفر القبور، وكان المحسن من الناس بالغ الإحسان من يقضي طوال يومه في حفر القبور لا يوقفه عن ذلك إلا الصلاة، أو استراحة قصيرة يتناول فيها بعض لقيمات تعينه على عمله.

ثلاثة أشهر فقط كانت كافية لقطع دابر أسر برمتها، فتوقف ذكرهم وتاريخهم عند تلك السنة «سنة الرحمة»، كانوا يتفقدون البيوت وربما كسروا الباب عليهم، أو تسوروا السور ليجدوا الأسرة كاملة جثثًا هامدة، يغسلونهم ويصلون عليهم ويدفنونهم دون عزاء إذ عدم الأحياء من الأهل والآل ليتلقوا العزاء والمواساة.

كان أبو إبراهيم قبل سقوطه الأخير يعلم أن أهالي البلدة طيبون ذوو إيمان وصلاة وصلاح، ويجد لهم العذر في عدم شهود صلاة الجماعة خوف العدوى، فغض الطرف عن ذلك، ورأى أن الناس قد شق عليهم الذهاب إلى الجامع للصلاة على الجنائز لكثرة الموتى فأمرهم: أن يصلوا على الجنائز في المساجد القريبة دون الجامع، أو في المقبرة مباشرة.

هذه بعض قصة متخيلة بأحداث واقعية يعود تاريخها إلى أربعينيات القرن الماضي عندما اجتاح وباء «الحمى الإسبنيوليه»، أو «الحمى الإسبانية»، مختلف أرجاء الجزيرة العربية، ودول الخليج العربي، وليس هذا فحسب بل والعالم أجمع.

«سنة الرحمة» كما عرفت في السعودية، بدأت في محرم، وقيل في صفر من عام 1337ه، الموافق 1918-1919، حيث نزل الوباء، وقد وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها قبل أشهر قليلة فقط، مما يبدو أن مخلفاتها من جثث، وما تم استخدامه من مواد قد ملأت الأجواء وجرت أذيال الخراب والأوبئة على العالم مخلفة أكثر من عشرة ملايين قتيل، وقد استخدمت فيها الغازات السامة والقاتلة لأول مرة.

ويذكر أن انطلاقة الوباء كانت من أمريكا رغم إلصاق مسمى المرض بإسبانيا، ليصل عبر المحيط إلى فرنسا ومن ثم إسبانيا التي فقدت ثمانية ملايين من سكانها في تلك الفترة.

ويرجع سبب التسمية «بالإنفلونزا الإسبانية» إلى انشغال وسائل الإعلام الإسباني بالحديث عن الوباء نتيجة لتحررها الإعلامي مقارنة بالدول المشاركة في الحرب العالمية الأولى، فإسبانيا لم تكن جزءًا من الحرب ولم يتم تطبيق المراقبة على الإعلام الإسباني، فسميت الحمى باسمها لكثرة حديثها عنها، ومن المفارقات أن الإسبان أطلقوا على العدوى اسم «الإنفلونزا الفرنسية».

أما في الجزيرة العربية فأخذ الوباء اسمين، الأول سمي «بسنة الرحمة»، لكثرة ترديد دعاء الرحمة للأموات (الله يرحمه)، والتسمية الأخرى كانت «سنة الصخونة»، وهو تعبير شعبي لوصف ارتفاع حرارة الجسم.

ثلاثة أشهر أو أربعة شغلت الناس وصدتهم عن مصالحهم، في البوادي والمدن، كان الأشد فيها أوسط تلك الأشهر. الأقوياء كانوا الأكثر عرضة للمرض ثم الموت، فغالبية ضحايا هذا الوباء كانوا من البالغين الأصحاء عكس ما يحصل عادة من استهداف الأوبئة لكبار السن والأطفال والأشخاص المرضى أو ضعيفي المناعة، حيث أحدثت الإنفلونزا الإسبانية مضاعفات مميتة فيمن كانت أعمارهم أقل من 45 سنة. وتشير الإحصائيات إلى أن 99% من الوفيات كانت في أشخاص أعمارهم أقل من 65 سنة، وأكثر من نصف الوفيات كانت في المجموعة العمرية ما بين 20-40 سنة.

ولا يعرف العلماء تحديدًا سبب تأثُر الشباب بالمرض على هذا النحو، ولكنهم يعرفون أن كبار السن كانت وفياتهم أقل خلال الوباء مقارنة بما قبله.

لم يقف نبل هذ الوباء عند تجنب الصغار والضعفاء، بل استطاع تغيير إستراتيجية الصحة العامة في العشرينيات من القرن الماضي، إذ أنشأت دول عديدة وزارات للصحة لم تكن موجودة من قبل، أو أعادت هيكلة الموجود لديها، وأسست لأنظمة أفضل لرصد الأمراض وتعميم المظلة الصحية لتشمل الجميع وتقدم الخدمة الطبية بالمجان.