في أحد اللقاءات المتلفزة مع مؤرخ العلوم والرياضي العربي رشدي راشد، أشار إلى نقطة مهمة عن ترجمة العلوم، وأن ذلك مرتبط بمدى حضارة الشعوب، وأشار إلى ترجمة مسودات نيوتن وأن العالم المتحضر يهتم بها، بينما العالم العربي ليس بمستوى هذا الاحتياج والعطش المعرفي، فبالكاد ينجحون في ترجمة أمهات كتب الحضارات الأخرى وتعتبر أحياناً مغامرة للناشر إن كان ينتظر ربحاً، طبعاً فرشدي راشد لم يقل المكتوب أعلاه بشكل حرفي، لكن مآلات كلماته الهادئة والموضوعية تؤدي لهذه النتيجة القاسية في أننا لم نصل إلى العطش المعرفي الكافي لنلتهم كل ما نحتاجه في تاريخ العلوم، بخلاف أوروبا التي لا تزال حتى هذه اللحظة تستعين بأمثال رشدي راشد لنقل المعارف العربية التاريخية إلى حضارتهم ولغتهم، وكذلك يفعلون مع متقني الصينية والهندية... الخ.

هذه المقدمة بسبب ما وجدته في كتاب تحت عنوان (الثقافة العالمية/علوم اللغة) وتضمن خمسة أبحاث من أهمها (علم اللهجات الكمي الاجتماعي) وبحث (تطور اللسانيات التطورية) وبحث (الانتروبيا العالمية لترتيب الكلمات عبر العائلات اللغوية) وقد سعدت بقراءة هذه الأبحاث المشار لها، رغم أنها مترجمة عن اللغات الأوروبية وتخص فضاءاتهم اللغوية. وقد تواصلت مع أحد الأكاديميين الشباب في إحدى الجامعات متسائلاً عن أبحاث أكاديمية في هذه المجالات، فكانت إجابته مزيج من (الاستعلاء المؤدب) عندما قال: (لم أسمع بعلم اسمه علم اللهجات الكمي الاجتماعي) فكأنما (عدم علمه بهذا الفرع العلمي دليل على عدم وجود هذا العلم) فقلت في نفسي: لقد استعجل فقدان الشغف المعرفي في تخصصه، لقد أصبح (مدرسا تقليديا في الجامعة) يضيق بسؤال طالب علم من أمثالي.

تابع معي عزيزي القارئ قراءة مقدمة بحث علم اللهجات الكمي الاجتماعي لتعرف أين وصل العالم وأين توقف بعضنا عند (ابن جني وابن خروف)، والمقدمة تقول: (علم اللهجات الكمي الاجتماعي: تفسير الاختلافات اللغوية جغرافياً واجتماعياً). بقلم: مارتيخن فيلنج وجون نيربون ور، هارالد بابين وفي مقدمته: (في هذه الدراسة ندرس الاختلافات اللغوية واعتمادها على العوامل الاجتماعية والجغرافية على حد سواء، ونستند إلى أسس علم قياس اللهجات «dialectometry» في تطبيق المنهجية الكمية والتركيز على المسافات الفاصلة بين اللهجات واللغة الرسمية، كما نستند إلى علم اللهجات الاجتماعي «social dialectology» في اختيار العوامل التي ندرسها لبناء نموذج للتنبؤ بالمسافات الفاصلة في نطق الكلمات بين اللغة الهولندية الرسمية و(424) لهجة هولندية، ونجمع بين نماذج الانكفاء الخطي للتأثيرات المختلطة «linear mixed-effects regression modelling» وبين النماذج التجميعية العامة «generalized additive modeling» للتنبؤ بمسافة النطق لـ(559) كلمة) راجع ص39 من كتاب علوم اللغة إصدار المجلس الأعلى للعلوم والثقافة والفنون العدد 172 السنة الثلاثون/سبتمبر ــ أكتوبر 2013.


وقد أدركت أن (الحضارة لم تعد غربية أو شرقية) بل حضارة إنسانية والسباق مفتوح لمن يستطيع امتلاك الشغف ولو كان مصرياً اسمه أحمد زويل أو نجيب محفوظ أو قرابة اثني عشر هندياً فازوا بنوبل في مجالاتها المختلفة. فالحضارة الإنسانية نادٍ مفتوح للقادرين وعيبه الوحيد مثلاً، أن نادي السيليكون يرحب بالمبدعين ففي هذا الوادي (العلم أولاً ثم المال)، أما المستثمرون (الرأسماليين) فمجالس رجال الأعمال وحفلات أعمالهم تغطي هذا النوع من الصفقات الاستثمارية في دافوس وغيرها، أما صفقات (العقول) فيمكن اكتشافها بالنظر إلى خارطة العالم وأين يشير سهم (هجرتها).

ما اقتبسته من البحث في (علم اللهجات الكمي الاجتماعي) ليس إلا إعلانا استسلاميا فيما قرأته ولم أتمكن من استثماره بشكل كافٍ في معارفي المتواضعة (غير المتخصصة) في علوم اللغة، متمنياً عبر هذا المقال أن يعطي المتخصصون البارعون بعض متواضعي المعرفة مفاتيح معرفية لغوية، يستطيعون من خلالها فك أبجدية اللهجات ولو في الحد الأدني. ففيها غواية ومتعة يعرفها كل من أوتي ذائقة لغوية مفتوحة على اللهجات العربية وتاريخ تطورها وإلى أين تسير؟!