أكثر ما تردد بعد إصابة دونالد ترمب في محاولة الاغتيال أنه «محظوظ»، وسارع مريدوه المتدينون وغير المتدينين إلى القول إنها «العناية الإلهية» وهو جاراهم في ذلك. لكن كانوا أقلية أولئك الذين تساءلوا: هل يتعلم شيئاً مما حصل، هل يتغير، وهل يخطر في باله أن الحادث قد يكون أيضاً إشارة «إلهية» إلى وجوب ضبط نهجه التحريضي والجنوح إلى «اعتدال» لم يعرفه أو يمارسه في مختلف مراحل حياته، حتى قبل أن يتبوأ الرئاسة. وكان مستغرباً أن يتماشى مع منافسه جو بايدن في دعوة الأمريكيين إلى «وحدة الصف»، لأن في هذه الدعوة شيئاً من الطوباوية يناقض اقتناعاته ولا يعتقده صالحاً لإدارة حملة انتخابية، ثم إنه استخدم كل خبراته في صنع الانقسام وتعميقه، فبعد ثوان من إصابته في أذنه خرق الطوق الأمني رافعاً قبضته وصائحاً «قاتلوا» ثلاث مرات. لا أحد يمكن أن يحدد مَن يجب أن يقاتل مَن.

لكن «وحدة الصف» انعكست على حزبه الذي بدا هذه المرة ملتفاً حوله بلا أي جدل، خلافاً لما كانت عليه الحال في 2016 وكذلك بل أكثر في 2020 حين تبين أن جمهوريين كثراً صوتوا ضده ومالوا إلى بايدن. لكن مناوئي ترمب داخل الحزب الجمهوري أصبحوا أقلية غير مؤثرة، وباتوا مستسلمين لكونه صاحب تيار حيوي أثبت قدرته ليس فقط على العودة إلى البيت الأبيض، أي على تهيئة خلفه المفترض في شخص جيمس ديفيد فانس الذي اختاره نائباً له.

ليس سراً أن اختيار «ج. د» لا يحظى بإجماع الجمهوريين، لكن أي حزبي مهما علا كعبه يستطيع اليوم أن يعارض ترمب الذي لم يعد «دخيلاً»، كما كان يُنظر إليه، بل أصبح مستحوذاً على الحزب ومؤسساً لجيله الجديد. وصف بايدن فانس بأنه «استنساخ» لترمب، بمعنى أنه أسوأ من الأصل، لكن التزام «وحدة الصف» جعل بايدن يحجم عن تكرار الأوصاف التي كالها فانس سابقاً لترمب، ومنها تشبيهه بهتلر، ذاهباً أبعد من نعته بـ«المستبد» أو «التهديد الوجودي للديمقراطية» كما فعل الديمقراطيون مما استغله الجمهوريون لاتهامهم بأنهم مهدوا الطريق لمحاولة الاغتيال في بنسلفانيا.


صدمت أمريكا بما حدست أنها عودة للعنف السياسي، وفي الوقت نفسه تذكرت أن أربعة رؤساء اغتيلوا بأيدي أفراد وأن ستة نجوا من محاولات اغتيال. لكن أسباب الانقسام الحالي التي يُفترض أن تؤدي إلى العنف ليست واضحة لديها، وكأن تهديد ترمب بـ«حمام دم» إذا لم يفز بولاية ثانية، أو كأن دعوة بايدن (التي اعتذر عنها) إلى وضع منافسه في «بؤرة الاستهداف»، لم يشكلا مقدمات كافية لعودة العنف. لا بد أن هناك حُكاماً في الدول المارقة سخروا خفية من «ركاكة» محاولة الاغتيال على رغم سقوط قتيل وجرحى، والمؤكّد أن هناك مجتمعات تهكمت على الحادث، إذ قارنته مع العنف الذي تمارسه قنابل أمريكا وسياساتها. غير أن هذه أمريكا، وهي تخشى من فورة العنف فيها، وهذا ما انعكس ارتباكاً لدى حملة بايدن والديمقراطيين وعجزاً عن الردّ على مساعي الجمهوريين لإلصاق التهمة بهم. أما بالنسبة إلى حملة ترمب، وهو شخصياً، فجاء حادث لإطلاق النار وجرحه الطفيف لتعزيز لحظوظه الرئاسية من حيث لم يتوقع.

لذلك بدا خطاب ترمب لقبول الترشيح كأنه «خطاب النصر»، وهو قال «سنحقق فوزاً مذهلاً»، لكن استطلاعات الرأي أظهرت تغييراً ضئيلاً غير مذهل لمصلحته. فعلى رغم البلبلة في المعسكر الديمقراطي لا يزال الانقسام على حاله، وكل ما يراهن عليه ترمب هو أن يستميل المترددين الذين سيزداد عددهم سواء قرر بايدن البقاء أو الانسحاب من السباق الرئاسي، لأن الوضع الذي يواجهه الديمقراطيون أقرب إلى خسارة البيت الأبيض في كل الأحوال، على عكس الجمهوريين.

أجمع المحللون على أن الجزء الأول من خطاب قبول الترشيح عبّر عن ترمب ما بعد محاولة الاغتيال، وتضمن التعديلات التي أدخلها الجمهوريون على برنامجهم لمخاطبة ناخبي الوسط، خصوصاً بالنسبة إلى مسائل الاقتصاد والإجهاض من دون المس بحرية اقتناء السلاح، فيما بقي التركيز على قضية الهجرة غير الشرعية. أما الجزء الثاني من الخطاب فأثبت فيه ترمب أنه لم يتغير بل استأنف هجماته الشخصية على من سبقه من رؤساء وسياسات، وإذ لم يكرر وصف «بايدن الناعس» فإنه واظب على عدم وصفه بـ«الرئيس»، حفاظاً على رواية «تزوير الانتخابات» السابقة التي جعل منها أداة لشد عصب أنصاره الشعبويين.

لم يكن هناك جديد في إشارات ترمب إلى سياسته الخارجية، وإذ يجري التذكير باستمرار بأنه الرئيس الوحيد الذي لم يورط أمريكا في أي حرب، فإن هذا الرصيد لم يعنِ أبداً أنه يؤمن بقيم السلام والعدل ويعمل لإرسائهما في النظام الدولي. وليس أدل إلى ذلك من وضعه إسرائيل في منزلة «القداسة»، وضغوطه لتطبيق «صفقة القرن» وسلب حقوق الشعب الفلسطيني وأرضه، ومزايدته على بايدن بالتأييد المطلق لإسرائيل في حربها على غزّة... كلّ ذلك ينذر بأن عودته المحتملة إلى البيت الأبيض باتت مسبوقة بعناوين مثل: «شرعنة الإبادة الجماعية» و«شرعنة الاحتلال والاستيطان» و«شرعنة تهجير الفلسطينيين»... وقد برهن ترمب خلال ولايته الأولى أنه على يمين المتطرّف الإسرائيلي. ولا عزاء لمحكمة العدل الدولية.

أما خياراته الخارجية الكبرى فمستمرة، من اليد الممدودة دائماً إلى الرئيس الروسي إلى مناكفة الصين في التجارة كما في السياسة. لكنه لن يعامل تايوان كـ«دولة حليفة» بل إن عليها «أن تدفع» كي تحصل على حماية أمريكية. والأهم أنه سيعود إلى إقلاق الحلفاء والأصدقاء من أوروبيين وعرب، وفقاً للقاعدة نفسها، أي «ادفعوا، ادفعوا»، وحتى مع الدفع فلا شيء مضمون مع ترمب المدفوع هو نفسه بـ«الواقعية السياسية» وغلبة موازين القوى. لذا فهو بالتأكيد لن ينفق مليارات على تسليح أوكرانيا ودعمها في الحرب ضد روسيا، وسيميل إلى تسوية ترجّح تخلّي أوكرانيا عن الأجزاء التي اقتطعتها روسيا من أراضيها، ففي 2016 كان يؤيد الاعتراف بضمّ روسيا شبه جزيرة القرم مقابل عدم ضم أوكرانيا إلى حلف الأطلسي.

* ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»