وشهوة الكلام هنا - فيما أرجح - محصورة في هذا الكلام العادي أو غير العادي الذي تنطلق به ألسنة الناس، وتهدر كما تهدر الفحول، وما بها، «قطم» كما يقول المتنبي.
وشهوة الكلام عند كثير من الناس – ما أسعدهم – أشد من شهوة الطعام والشراب والنكاح.
ولا يهم إن كان الكلام نافعًا أم لم يكن، وإنما المهم جدًا هو أن يركض لسان المرء في شدقه عشر ساعات بلا انقطاع دون أن يفيد أو يستفيد أو ينتهي إلى نتيجة..
وقيل - والله أعلم - إن الإنسان لم يميز على غيره من المخلوقات الغفيرة إلا بالكلام، فيا لها من ميزة تجهد، ولا تعود بما يسر أو يسعد.
وقد استراحت الحيوانات - ما عدا الإنسان – بالصمت إلا من ثغاء أو رغاء أو نهيق عند اللزوم، واستراحت الجمادات من هذا كله، فما أطيب نفوسها وأقر عيونها !...
وشهوة الكلام موصولة بعروق الإنسان، موشجة بأعمق أعماق نفسه متغلغلة في ظلمات غريزته البعيدة، فما عنها مندوحة؛ ألا تراه إذا تعب من التحدث إلى غيره، خلا إلى نفسه فأطال الحديث وشقق الكلام. وطفق يقيس كل شيء ويدرسه ويستقصيه، ويقارنه إلى سواه. وينتهى بعد ذلك كله إلى حقيقة أو لا ينتهي إلى شيء، وما يعنيه من النهاية - مهما تكن - وقد هدم وشيد وعدل وظلم وشجع وثبط، وصعد إلى الآفاق، وهبط إلى الأغوار ثم أعياه النصب، فوضع رأسه على أقرب شيء إليه ونام، وهو يعتقد أنه قد أعاد العناصر إلى أصولها، وأقام العوج، وأصلح المختل، وعادت الدنيا أبهى وأجمل وأكمل منها قبل أن يشرفها بالتفكير فيها والعمل - بالكلام - لإصلاحها والدنيا ماضية، والزمن دائب، لا يحفل بهذا الإنسان المتنفج المغرور !
وأكثر أنواع الكلام ضروب مضحكة من الأحلام الهاذرة، والأكاذيب السخيفة التي تصبح كالفقاقيع، تعود من حيث أنت كأن لم تكن.. فماذا تتصور هذه الدنيا، وكيف تتخيلها، لو أن كل إنسان يفعل ما يقول، ويفي بكل ما وعد، ويحقق كل ما تمنى؟
والطفل، وهو الصورة المصغرة للإنسان يهيم بالكلام، ويكثر فضوله ويشتد منذ أن يحفظ كلمة [بابا] و[ماما]، فتراه يكررها عشرات المرات كالحلقة المفرغة التي تبتدئ من حيث تنتهي، وينطلق ملحا مهذارا لا يمل ترديدها: بابا. - نعم. بابا. - نعم يا حبيبي. بابا. - يا عيني ماذا تبغي؟
بابا. (بكل تذمر وملل): سخط.. ما هذه المحنة؟ وينسى الإنسان أنه كان أشد هذرا وثرثرة من طفله يوم كان في مثل سنه.
وأحسب أن الكلام نتيجة إفراز عضلي لا بد من تعريفه على أي حال وإن كنت لم أقرأ شيئًا عن ذلك، فإن لم يصرفه الإنسان، فقد يعود عليه بأذى أو مرض أو غير ذلك، وهذا التدبير – صحيحا كان أو غير صحيح – يغري المرء دائمًا بأن يتكلم أطول مدة ممكنة في أتفه موضوع، ولن يعوز الإنسان أن يبرر كل شيء حتى أضاليله وأباطيله، فما بالك بالكلام، وقد أمسى شهوة قادرة قاهرة.
والناس يظنون أن الصمت سكون تام مطبق، وليس ذلك بصحيح، فإن الصمت كلام مستسر لا يديره ولا يسمعه إلا صاحبه.
وعندما تسكن جوارح المرء وتسترخي مفاصله ويصبح في مثل التهويمة المغيبة، تنضو النفس غلائلها، وتكشف حجابها، وتأخذ في استعارة ما مضى عليها، وتأمل ما يستقبلها، وتذهب كل مذهب في البحث والتنقيب والتذكر والتفكر، والاستعداد.
وليس أبلغ من فرحة الإنسان عندما يجد من يطارحه الحديث ويناقله الكلام ويفهم عنه كما يفهم منه، ولكن هناك فرحة أخرى تضاعف الأولى وتزيد من لذتها ورونقها، وهي أن يجد الإنسان جليسًا لبقا - أو مرائيًا إن شئت - يستصوب منه كل رأي مهما ضعف، ويؤمن له على كل كلمة مهما سمجت، وينهج في تمديح أقواله وإطراء آرائه كل منهج !
ولست ممن يتأثر بالكلام - حسن أم قبح - ولكني ممن لا ينقطع عجبهم وإعجابهم أيضا من هؤلاء المناطيق المهاذير الذين يتحدثون عن الهواء والخواء أكثر وأبلغ مما يتحدثون عما يجب التحدث عنه من الحقائق المادية والمعنوية، إنهم مثل العلماء الذين يفرغون الأنابيب من الهواء، ثم يأخذون يصفون لك ما تحتويه هذه الأنابيب من عجائب الأجسام والأجرام والغازات وغيرها
إن مادة الكلام ليست بهذه السهولة التي يتصورها هؤلاء المتكلمون والمؤلفون.. ولكن من يدري؟ لعل هذه أجمل فضيلة استطاعت هذه المخلوقات أن ترقى إليها وتتسم بها.. إن لم تكن في الوقت نفسه أشنع رذيلة.
1946*
* شاعر وصحافي سعودي «1914 - 1993».