في مطلع الثلاثينيّات من القرن الماضي، بعثتِ "الوكالةُ الصهيوّنيةُ لتوطين اليهود في فلسطين" رسالةً إلى المفكّرين والعُلماء والمُثقّفين اليهود البارزين، طالبةً منهم تأييد مشروعها - أي توطين اليهود في فلسطين. وقد ردَّ جُلّهم على تلك الرسالة بالإيجاب. أمّا عالِم النَّفس الشهير سيغموند فرويد، فقد كان ردّه سلبيّاً. وفي الرسالة التي بَعَثْ بها إلى أينشتاين بتاريخ 26 فبراير 1930 يقول: "لستُ أعتقد أنّ فلسطين ستصير ذات يومٍ دولةً يهوديةً، وأنّ العالَم المسيحي أو المُسلم سيقبل ذات يوم بأن يَدع الأماكن المقدّسة في أيدي اليهود. وكنتُ لأحسنَ الفَهْمَ أكثر لو تمَّ تأسيس وطنٍ يهودي فوق أرضٍ عذراء لا تَرزح تحت وطأة التاريخ".

وفي26 يونيو من السنة المذكورة نفسها، بَعَثَ فرويد برسالةٍ أخرى إلى الطبيب النمساوي الصهيوني حاييم كوفلر الذي كان يُطالِب شخصيّاتٍ أوروبيّة كبيرة ومرموقة بإمضاء عريضة احتجاج ضدّ عرب القدس مُتّهماً إيّاهم بالقيام بأعمالِ "شغب وعنف" لمنْع اليهود من الوصول إلى "حائط المبكى". وجاء فيها: "ولستُ بقادرٍ على أن أَجِدَ في نفسي ظلًّا من التعاطُف مع ذلك التديُّن الذي ضلَّ سبيله فأراد تأسيس ديانة قوميّة على حائط هيرودوس، والذي لا يتوجَّس، حُبّاً منه بتلك القِطَع من الحجارة، من أن يَصدم مشاعر السكّان الأصليّين".

ومن المؤكَّد أنّ ردّ فرويد صَدَمَ المُشرفين على "الوكالة الصهيونيّة لتوطين اليهود في فلسطين"، لذا قرَّروا ألّا تَقع عليها أيّ عَيْن بشريّة. لكن في العام 2005، وتحديداً بعد مرور75 عاماً، تمّ الكشْفُ عن هذه الرسالة التي تُظهِر عُمق فكر فرويد، وبُعدَ نظره؛ إذ إنّ ما توقّعه ظلَّ يتكرَّر منذ قيام دولة إسرائيل سنة 1948 وحتّى هذه الساعة. فلا تكاد تمرّ سنةٌ واحدة من دون مُواجهاتٍ عنيفة أو معارك ضارية أو حروبٍ بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين الذين يحظون بدعْمٍ قويّ من الدول الغربية، وبخاصّة من الولايات المتّحدة الأميركيّة التي يَصِلُ تأييد مختلف زعمائها من الجمهوريّين أو من الديمقراطيّين في غالب الأحيان إلى حدّ اعتبار إسرائيل إحدى ولاياتها، ورمزاً للحضارة الغربيّة بصفةٍ عامّة. وما يشهده غلافُ غزّة راهناً من مذابح ومن مَجازر هو دليلٌ قاطع على أنّ فرويد كان مُحقّاً وصائباً في توقّعاته. وصحيح أنّ الحكومة البريطانيّة كانت قد صادَقت على مشروع "إقامة وطن لليهود في فلسطين" عبر رسالة وجَّهها وزيرُ خارجيّتها أرثر بلفور إلى ليونيبل دي روتشيلد، أحد أبرز الشخصيّات اليهوديّة في المَملكة المتّحدة، بتاريخ التّاسع من تشرين الثاني/ نوفمبر1917، إلّا أنّ صياغة هذا المشروع تعود إلى النصف الثاني من القرن التّاسع عشر، وتحديداً إلى صحافيٍّ وكاتبٍ يهوديٍّ نمساويٍّ يُدعى تيودور هيرتزل الذي كان مؤسِّساً للحركة الصهيونيّة. وقد سَعَتْ هذه الحركة منذ نشأتها في النصف الثاني من القرن التّاسع عشر، إلى إقناع العالَم، اعتماداً على الأساطير، وعلى أحداث مُوغلة في القِدَم، بأنّ فلسطين مَوطِن لليهود المُشتّتين في جميع أنحاء العالَم. ولم يتردَّد أتباعُ هرتزل من الصهاينة في استعمال العنف والإرهاب انطلاقاً من ثلاثينيّات القرن الماضي لفرْض فكرتهم، وطرْد الفلسطينيّين من مُدنهم ومن قراهم، واغتصاب أراضيهم على أساس أنّ فلسطين هي "أرض الميعاد"، وأنّها الوطن الشرعي لليهود. وقد ظلَّت أفكار تيودور هيرتزل، التي صاغها في كتيّبٍ صغير، مرجعاً أساسيّاً لكلّ زعماء الدولة العبريّة وقادتها. كما أنّها المرجع الأساسي للتيّارات وللأحزاب اليمينيّة المُتطرِّفة التي لا تتردّد في استعمال كلّ وسائل العنف والترهيب لتوطين اليهود، وتحويل الشعب الفلسطيني إلى شعبٍ مشرَّد بلا أرض وبلا تاريخ وبلا هويّة. ومن المؤكّد أنّ أفكار تيودور هيرتزل هي التي تقود اليوم الصهاينة، بقيادة بنيامين نتنياهو، في حرب الإبادة في غزّة، وبها يستضيئون لارتكاب أفظع المجازر وأشنعها في مطلع الألفيّة الجديدة وبتأييدٍ مُطلقٍ من كلّ الدول الكبرى.


عَودة تيودور هرتزل

كان مولد تيودور هرتزل في العاصمة المجريّة بودابست في الثاني من شهر أيّار/ مايو من العام 1860، وهو ينتمي إلى عائلة يهوديّة متوسّطة الحال. وكانت نشأته تتأرجح بين التقاليد الدينيّة اليهوديّة، وبين الثقافة الألمانيّة التي كان لها تأثيرٌ واسع على اليهود في بلدان أوروبا الوسطى، لذا كانوا يتكلّمون لغة غوته بطلاقةٍ، مُفضّلين إيّاها على اللّغات الأخرى. وبهذه اللّغة أيضاً كَتَبَ كِبار المفكّرين والشعراء والروائيّين اليهود الذين وُلدوا ونشأوا في هذه المنطقة.

في البداية رغبَ تيودور هرتزل في دراسة الأدب والمسرح الألمانيَّيْن، إذ إنّه كان يكنُّ إعجاباً كبيراً بكلِّ مِن غوته وشيللر، غير أنّ والدَيْه أرسلاه إلى فيينّا لدراسة الحقوق؛ وهناك عاش سنواتٍ زاهية وثَريّة، تعرَّف خلالها على كِبار المُفكّرين والشعراء والصحافيّين، واختلطَ بطلبةٍ من جنسيّاتٍ مختلفة، ومعهم كان يتردّد على تلك المقاهي التي كانت تبدو وكأنّها "مؤسّسات من صنفٍ خاصّ لا مثيل لها في العالم بأسره" كما يقول ستيفان زفايغ في كتابه: "عالَم الأمس"؛ ثمّ إنّ تلك المقاهي كانت بمثابة "نوادٍ ديمقراطيّة" تُناقَش فيها أهمّ القضايا السياسيّة والفلسفيّة والفنيّة والأدبيّة وغيرها، وفيها يُمكن قراءة كبريات الصحف والمجلّات الأوروبيّة. في هذه الفترة "الذهبيّة" من تاريخ الإمبراطوريّة النمساويّة التي سوف تنهار بعد الحرب الكونيّة الأولى، مثلما كان حال الإمبراطوريّة العثمانيّة، بدأ تيودور هرتزل يَلتهم الكُتبَ باحثاً فيها عمّا يُمكن أن يضيء له "المسألة اليهوديّة"، ويَكشف له أسباب مُعاداة الساميّة. ويُشير المؤرِّخ البريطاني "دزموند ستيوارت" إلى أنّ أوّل أزمة اعترضَت الطالبَ الشابّ تيودور هرتزل حصلت في العام 1883. فقد تأسَّس أوّلُ اتّحادٍ للطلبة يُجاهِر بالتحيُّز المُطلَق للقوميّة الألمانيّة، وبمُعادة الساميّة. وقد تمَّ التعبير عن ذلك خلال تظاهرة انتظمَت بمُناسبة وفاة الموسيقار الشهير ريتشارد فاغنر. وعندما أَقدم أحد الطلبة المُنتمين إلى جمعيّة "ألباي" على إطلاق عبارات مُعادية لليهود، سارَع تيودور هرتزل إلى الاستقالة من تلك الجمعيّة التي كان عضواً فيها. وعندما شَعَرَ أنَّ الوقتَ قد حان للدفاع عن أفكارٍ كانت تَختمر في رأسه، اقتحمَ هرتزل عالَم الصحافة مُظهِراً فيه كفاءةً عالية. وبفضل ذلك، أَرسلته "الصحافة الجديدة الحرّة" التي كانت مهتمّة بإبراز إسهام اليهود في الثقافة الألمانيّة، مُراسِلاً لها إلى باريس. وكانت العاصمة الفرنسيّة تعيش آنذاك على وقْعِ جَدَلٍ ساخنٍ بين أنصار الساميّة والمُعادين لها. وقد ازدادَ ذلك الجدلُ احتداماً إثرَ صدورِ كتابٍ للفرنسيّ "إدوارد درومونت": "فرنسا اليهوديّة"، وفيه وَرَدَ ما يلي: "إنّ يهود فرنسا ليسوا فرنسيّين، بل إنّهم شعبٌ ضيْف يستغلّ توسُّع النظام الاقتصادي لمصلحته الخاصّة، ولتحقيق السيطرة على العالَم. إنّهم كمُمثّلين للرأسماليّة الدوليّة مع نزعة عرقيّة إلى التجارة قد خلقوا في كلّ مكان صناعة كبيرة حطّمت الطبقة الوسطى المسيحيّة النّاشئة، وجَمعتِ الثروة في أيدي اليهود مثل روتشيلد". وفي البداية فكَّر هرتزل أنّ الحلَّ الأمثل لليهود الذين تعوَّدوا على أن يعيشوا كأقليّة مُضْطَهَدة، أن يندمجوا في المسيحيّة لكي ينهوا حالةَ العزلة التي يعيشونها، إلّا أنّه سرعان ما انتبهَ إلى أنّ هذا الحلّ لن يَقبل به اليهود الذين عُرفوا بتشبّثهم الشديد بدينهم. وهذا كان حال الفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون (1135 - 1204) الذي عاشَ في الأندلس في زمنِ ابن رشد، ثمّ في مصر، إلّا أنّه ظلَّ يُحرِّض اليهود على ضرورة التمسُّك بدينهم، حتّى في أَحلك الأوقات والظروف. كما أنّ الحلّ المذكور سوف يكون مرفوضاً جملةً وتفصيلاً من الكنيسة المسيحيّة، لأنّها تَعتبر اليهود قَتَلَة المسيح. وسوف تكون مُحاكَمة الضابط الفرنسي من أصل يهودي، ألفريد دريفوس، في نهايات القرن التّاسع عشر بتهمة تسريب أسرارٍ عسكريّة إلى ألمانيا، حاسمة في توجّهات تيودور هرتزل السياسيّة. ومُتابِعاً يوماً بيَوم الحملات المسعورة ضدّ الساميّة، أَصبح دريفوس يُجسّدُ في نظره شخصيّة اليهودي المظلوم والمُضْطَهد حتّى ولو كان بريئاً. عندئذ اتَّصل بالمليونير اليهودي مورتيز دي هيرش الذي كان قد أسَّس جمعيّةً لتوطين اليهود الروس في الأرجنتين راجياً أن يُساعده ماديّاً ومعنويّاً لتأسيس دولةٍ يهوديّة. بعدها شرعَ يُدوّنُ أفكارَه وملاحظاتِه بشأن هذه الدولة قائلاً: "الكلّ يَعلم أنّ البُخار يُولد بغلي الماء في غلّاية، وأنّه يُحرِّك غطاءها فقط. والمشروعات الصهيونيّة والجمعيّات الأخرى لكبْحِ مُعاداة الساميّة ظواهر من نَوع غلّاية الشاي. لكن إذا ما أُحسن استغلالُ هذه القوّة، فإنّها تكون كافيةً لإدارةِ مُحرك كبير، ونقْلِ الركّاب والبضائع مهما كان نوع هذا المُحرِّك". وإذن لا بدّ من حلٍّ سياسيٍّ جذريٍّ للقضيّة اليهوديّة. وهذا الحلّ بالنسبة إلى تيودور هرتزل هو تأسيس دولة في فلسطين. إلّا أنّ يهود فيينّا المنتمين منهم بالخصوص إلى البورجوازيّة، سخروا منه قائلين:" أيّة ذبابة لسعت هذا الكاتب الذكي جدّاً، والمثقّف جدّاً؟ وما هذه الحماقات التي كَتبها؟ ولماذا يُريدنا أن نذهب إلى فلسطين؟ لُغتنا هي الألمانيّة وليست العبريّة، ووطنُنا هو النمسا الجميلة، وهل يُمكن أن يكون مصيرُنا أفضل في غير ظلّ الإمبراطور فرانسوا جوزيف؟ أَليس لنا مصادر رزق ووضعيّة اجتماعيّة مضمونة؟ ألا نتمتّع مثل الآخرين بحقوقِنا كمواطنين؟ ألسنا بورجوازيّين أوفياء ننعم بالاستقرار في فيينّا المحبوبة؟ أَلسنا نعيش في عهد التقدُّم الذي سوف يقضي بعد عقودٍ على كلّ الأفكار المسبقة بشأن العقائد؟ ولماذا هو اليهودي الذي يُدافع عن اليهوديّة يقدّمُ أسلحة إلى أسوأ أعدائنا، ويحاول أن يفصلنا، في حين أنّ كلّ عام يَمرّ يزيدنا ارتباطاً بالعالَم الألماني والتصاقاً حميميّاً به؟". غير أنّ دعوة هرتزل لتأسيس دولة يهوديّة في فلسطين لم تلبث أن لاقَت صدىً وتجاوُباً لدى فقراء اليهود في بولونيا وغاليسيا وروسيا.. وهكذا تمكَّن هرتزل بفضل الصفحات القليلة التي بلْوَرَ فيها دعوتَه المذكورة من أن يَجمع من حوله عدداً كبيراً من اليهود المُشتَّتين في مناطق مختلفة من العالَم.

عندما تجاهَلَ "كرومر" مشروعه

ومن القسطنطينيّة توجَّه تيودور هرتزل إلى فلسطين عبر مصر، آملاً أن يلتقي بالقيصر الألماني الذي كان يزور آنذاك الأراضي المقدَّسة. وكان القيصر الذي التقى به سرّاً في قصر "يلدز" في العاصمة العثمانيّة، قد وعده بذلك. لدى وصوله إلى ميناء يافا، سمع هرتزل طلقاتِ المدافع ترحيباً بالقيصر الألماني. وعلى الرّغم من الحرّ الشديد، قرَّر زيارة المستوطنات اليهوديّة الزراعيّة التي كان عددُ سكّانها حوالى 4500 نسمة. وفي أثناء تنقّله بينها، لاحَظَ أنّ "وجوه الأهالي شاحبة"، وأنّ العمّال "ينامون على الأخشاب"، وأنّ الكثير من المستوطنين "يُعانون من الحمّى". وفي مفكّرته كَتَبَ يقول "إنّ المنطقة لن تُصبح صالحة للسكن إلّا إذا ما أُزيلت المُستنقعات بعمليّاتٍ لتصريف المياه"، مُضيفاً: "هذا هو رأيي، وهذا ما أنوي القيام به... أعلم أنّ ذلك سيُكلِّف الملايين، لكنّه سيخلق ثروةً جديدة... وأعتقد أنّ العرب الذين لديهم مناعة من الحمّى قد يؤدّون العمل".

اغتمَّ هرتزل كثيراً وهو يرى اليهود، وجلّهم من "السفارديم" المطرودين من إسبانيا، يعيشون ويعملون في ظروفٍ قاسية. باسمهم كتبَ أحدهم يقول: "ربّما يكونون أتعس أصناف البشر. يَنشأون في حالةٍ من الجهل والبؤس يُثير قبحها وحرمانها أعمق الاشمئزاز؛ ولا يُمكن إلّا أن يُصاب المرء بالهلع وهو يجتاز الحيّ الذي يعيشون فيه وسْط الوحل والقذارة والرذيلة والفاقة". وهو يرى تلك المشاهد التي ترمز للشقاء والبؤس، أَصبح هرتزل أكثر إصراراً من ذي قبل على ضرورة إنقاذ أبناء قومه من الضياع والشتات؛ إلّا أنّ اللّقاء مع القيصر لم يكُن مثمراً. مع ذلك واصَلَ هرتزل جهودَه ومساعيه مُتنقِّلاً بين البلدان، مُحافِظاً على العزْمِ والحَزْم نفسه بهدف تنفيذ مشروعه الذي باتت مَعالِمُهُ أكثر وضوحاً، بعدما انتظمَ في مدينة بازل السويسريّة أوّل مؤتمر للحركة الصهيونيّة في العام 1897، وتبعه مؤتمرٌ ثانٍ في العام 1898 أفضى إلى بعْث الصندوق الوطني لشراء الأرض في فلسطين. ومن جديد عادَ هرتزل إلى لندن، إلّا أنّ زيارته لها في هذه المرّة فشلتْ فَشلاً ذريعاً، إذ إنّ اللّورد كرومر (1842 - 1917) رجل الدولة القوي، والذي كان مُراقِباً عامّاً في مصر، تجاهلَ مشروعه. لذا سيقول عنه في ما بعد إنّه "أسوأ بريطاني" التقى به في حياته. ولم تكُن زيارة هرتزل إلى روسيا بعد المذبحة التي تعرَّض لها اليهود هناك في العام 1903، مُثمرة أيضاً. فقد استقبلته الصحف الروسيّة بمَوجةٍ من الانتقادات الحادّة. أمّا المسؤولون الروس الكبار، وفي مقدّمهم القيصر، فلم يُظهروا ما يُمكن أن يشي بتحمّسٍ ما لمشروعه. لذا عاد إلى فيينّا مثقلاً بالهموم والأحزان. وفي الثالث من شهر تمّوز/ يوليو1904، خانه القلب فتهاوى ميّتاً وهو في الرابعة والأربعين من عمره. ولدى الإعلان عن وفاته، تدفَّق على فيينّا آلاف اليهود من الشرق والغرب لحضور جنازته، وشيَّعوه إلى مقبرة "دبيولينغر" ليُدفن بجانب والده وهُم يبكون ويَنتحبون كما لو أنّه أحد أنبيائهم أو قدّيسيهم... وبعد رحيله ازداد نفوذُ هرتزل ليكونَ تأثيره، وهو في قبره، أكثر من تأثيره وهو حيّ؛ إذ "حوَّل الحنينَ الجارف إلى الأرض الموعودة إلى حركة سياسيّة" تتمتّع بنفوذٍ قويّ انطلاقاً من نهاية العشرينيّات من القرن الماضي. ففي منتصف صيف العام 1929 تحرَّك المُتطرِّفون الصهاينة الذين كانوا عبارة عن أقليّةٍ ضئيلةٍ في مدينة القدس، عند الغروب باتّجاه حائط المبكى. ولم يكُن هدفهم من خلال ذلك التحرُّك الذي وَجَدَ تأييداً حتّى من اليهود غير المُتديّنين، "إحداث متاعب للعرب"، بل لأنّه سيلفت أنظار العالَم إلى مشروعهم الاستيطاني، ويُثير عواطف اليهود المُشتّتين في جميع أنحاء العالَم فيُقدّمُون تبرّعاتٍ سخيّة للوكالة الصهيونيّة.

وقد أدّى ذلك التحرُّك إلى مواجهاتٍ عنيفة مع العرب ليتحقَّق بذلك الهدف المرجوّ والمأمول من الوكالة الصهيونيّة التي كان فلاديمير جابوتنسكي أحد المُشرفين عليها. وهو، القادِم من منطقة الأودسا في روسيا السوفياتيّة آنذاك، كان مفتوناً بأفكار تيودور هيرتزل. ومنذ البداية أَعلن أنّه سيَبذل كلّ ما في وسعه من جهود لكي يُصبح الفلسطينيّون "أقليّة في فلسطين". لذلك طالَب ببعْث جيشٍ يهودي لأنّ السلاح هو "الوسيلة الوحيدة لإنجاز مشروع التوطين على أكمل وجه"؛ إلّا أنّ بريطانيا الدّاعمة للمشروع المذكور لم تَستجِب لهذا الطلب. وبعد الحرب العالميّة الثانية، استغلَّ بن غوريون التفوُّقَ العسكريّ للولايات المتّحدة وانتصارها في الحرب الكونيّة الثانية لكي يَنطلقَ إلى واشنطن بهدف إقناع المسؤولين الكبار هناك بضرورة تأسيس جيش يهودي. أمّا بيغن، التلميذ المخلص لفلاديمير جابوتنسكي، فقد غادَر روسيا ليَصِلَ إلى شرق الأردن سنة 1942. وفي زيّ جندي بولوني، تسلَّل إلى فلسطين ليؤسِّس تنظيماً إرهابيّاً مسلّحاً أَطلق عليه اسم: "أرعون تسافي ليئومي" ليعمل مع حركاتٍ إرهابيّة صهيونيّة أخرى مثل "الهاجناه" و"شتيرن" و"أرغون" على نشْرِ العنف وارتكاب المجازر بهدف ترويع الفلسطينيّين؛ بل إنّ هذه الحركات الإرهابيّة لم تتورَّع عن القيام بعمليّات اغتيالٍ شملتْ شخصيّاتٍ سياسيّة غربيّة من أمثال وزير الدولة البريطاني اللّورد مورين، والكونت بارندوت وسيط الأُمم المتّحدة. وقد ازدادت أعمالُ العنف ضدّ الفلسطينيّين وحشيّةً وضراوةً بعد الحرب العالميّة الثانية، إذ أصبحَ زعماءُ الحركة الصهيونيّة واثقين أكثر من أيّ وقتٍ مضى بأنّ مشروع توطين اليهود في فلسطين الذي صاغه تيودور هيرتزل بات حقيقةً لا تَقبل لا الشكّ ولا التردُّد. وبعد مُصادَقة الأُمم المتّحدة على تأسيس دولة إسرائيل سنة 1948، زارَ جاك راينير الذي كان مُمثِّلاً للصليب الأحمر في مدينة القدس، في العاشر من شهر نيسان/ إبريل 1948، قرية دير ياسين ليكتشفَ فيها جثثَ مائتيْن وأربعة وخمسين رجلاً وامرأة وطفلاً من المدنيّين مُلقاة في آبار القرية. ولم يَنجُ من تلك المجزرة الرهيبة غير أربعين طفلاً... وعلى مثل هذه المَجازر المروّعة تحقَّق حلم تيودور هيرتزل المتمثّل في توطين اليهود في فلسطين..

*كاتب وإعلامي من تونس

* ينشر بالتزامن مع دورية أفق الإلكترونية.