النص لا ينكر أن الرسول كان يقرأ ويكتب، بل ينكر أنه كان يهوديًا أو نصرانيًا، لأنه لو كان كذلك، لأصبحت رسالته انقلابًا معاديًا ضد هاتين الديانتين.

الأصل في القول بأن الرسول محمدًا عليه السلام، لم يكن يحسن القراءة والكتابة، هو اعتقاد المفسرين المسلمين بأن التوراة والإنجيل يبشران بظهور نبي صفته أنه لا يقرأ ولا يكتب، طبقًا لقول القرآن: (الذين يتبعون الرسول الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل) [سورة الأعراف/ 157].

والمشكلة - كما ترى - ناجمة كلها عن تفسير كلمة [أمي] التي يصر المفسرون على أنها تعني: لا يقرأ ولا يكتب. فالواقع أن هذا التفسير مختلق من أساسه، وخارج عن مفهوم الكلمة في قاموس القرآن وفي أصلها اللغوي معًا. فالقرآن يقول في سورة آل عمران (وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين) وهي إشارة واضحة إلى أن (الأميين) هم غير اليهود والنصارى الذين لا يحسنون القراءة والكتابة، لأن هذه الصفة تلحق بمعظم أهل الكتاب أنفسهم.


وفي سورة آل عمران أيضًا، يعلن القرآن عن مبدأ اليهود في عدم الالتزام بأداء الأمانة لغير اليهود بقوله: (ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل) [75]. أي لا نلتزم تجاه غير اليهود، وليس لا نلتزم تجاه من لا يعرف القراءة والكتابة.

أما في اللغة، فإن كلمة [أمي] وردت في جميع اللهجات السامية مشتقة من [أمّ] بتشديد الميم، ومعناها الأصل والمنبع. فإذا نسبت الصفة إلى المفرد، تصبح [أمي] من (أمة). وإذا نسبتها إلى الجمع تصبح [أممي] من [أمم]. وهي الصيغة التي وردت في التوراة بمعنى من غير اليهود. والثابت أن الكلمة لا علاقة لها بالعجز عن القراءة والكتابة، ولا يستقيم تطويعها لإيراد هذا المعنى إلا من باب التحريف المتعمد.

وبشأن قول القرآن في سورة العنكبوت: وما كنت تتلو من قبله من كتاب، ولا تخطه بيمينك، إذا لارتاب المبطلون [48]. فقد فسره السيوطي بقوله، لو كان الرسول قارئًا كاتبًا، لشك فيه اليهود الذين يعرفون من نص التوراة، أن النبي المبعوث أمي لا يقرأ ولا يكتب، وهو تفسير قائم على الاعتقاد الخاطيء بأن التوراة والإنجيل يحويان نصًا يثبت أن النبي المذكور لا يحسن القراءة والكتابة، رغم أن مثل هذا النص غير موجود في أي من الكتابين المقدسين أصلًا. والواقع أن السيوطي بسبب سوء فهمه لكلمة [النبي الأمي]، سارع إلى تفسير قوله تعالى: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب) باعتباره دليلًا على أن الرسول لم يكن يحسن القراءة. وقد قال مؤكدًا: وفي هذه الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان أميًا لا يقرأ ولا يكتب. وفيها رد على من زعم أنه كتب.

الآية نفسها لا تحتمل شيئًا من هذا التفسير. فقوله تعالى: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك، إذا لارتاب المبطلون)، نص يتوقف فهمه على تحديد معنى كلمة [كتاب] التي تعني هنا التوراة والإنجيل. فالنص لا ينكر أن الرسول محمدًا كان يقرأ ويكتب، بل ينكر أنه كان يهوديًا أو نصرانيًا، لأنه لو كان كذلك، لأصبحت رسالته انقلابًا معاديًا ضد هاتين الديانتين، مما يفجر دواعي الريبة والنزاع. ولهذا السبب، بدأت الآية بقوله: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون) [العنكبوت / 46]. فالآية - كما ترى - تتوجه الإقرار قاعدة إسلامية مهمة تقوم على احتواء الخلاف بين الديانات وليست مجرد إعلان عن عجز الرسول عن القراءة. بالنسبة لقولك أن كلمة [اكتتبها] تعني: كلف من يقوم بالكتابة له، فإنه خطأ ظاهر والصحيح ( استكتب). أما اكتتب فهي صيغة من افتعل، تعني أنه شخصيًا قام بإجراء الفعل.

1993*

* كاتب وأكاديمي ليبي «1937 - 1994»