استوقفني وطفلتي (5 سنوات) ممرض بريطاني أثناء زيارتي لصديق في مستشفى بمانشستر. اعتقدت للوهلة الأولى أنه سيمنعها من الدخول بذريعة أن الزيارة للكبار فقط. لكنه سألها عما تمسكه في يدها. فأجابته بأنه دفتر وقلم صغير اشتريتهما للتو من الدكان الذي يقع في الطابق الأرضي للمستشفى. فقال لها: "أوه... أنا ظننتك نادلة في مطعم بسبب ما تحملين في يدك، هل أطلب طعاما سيدتي". فابتسمت وقالت:" نعم". فرد عليها: "أريد بيتزا حجم متوسط، تعلوها طماطم وجبن وفلفل أخضر. كما أفضل دايت ببيسي، لوسمحتِ". تظاهرت ابنتي بأنها تكتب ما يمليه على مسامعها. وعندما أنهى طلبه سألها أن تريه ما كتبت. ناولته الدفتر فلم يجد شيئا. قال لها: "لماذا لم تكتبي طلبي؟". ردت عليه بصوت خفيض: "لا أعرف تهجئة ما طلبت". فقام بتهجئة الطلب مجددا حرفا حرفا، وكان يراقبها وهي تكتب كل حرف في الدفتر ويساعدها على كتابته. وبعد أن انتهت من كتابة طلبه على نحو صحيح بسطت يديها الفارغة داعية إياه لالتقاط البيتزا المزعومة من يديها الصغيرتين. شكرها بحرارة ثم ودعناه، واتجهت معها نحو غرفة صديقي. بعد أقل من 5 دقائق هطل الممرض ديفيد من جديد ومعه علبة ألوان صغيرة أهداها لابنتي، مؤكدا أنها مكافأة لها على البيتزا الشهية التي أحضرتها له، وهو يضع يده على بطنه ويزم شفتيه تعبيرا عن لذة البيتزا التي يدعي أنها قدمتها له. ثم قال لها "هناك في آخر الممر غرفة ألعاب بإمكانك أن تلعبي فيها متى ما أحببتِ". فور أن فرغت من عيادة صديقي ذهبنا معا إلى غرفة الألعاب التي أرشدنا إليها ديفيد، لم تمض سوى دقائق محدودة إلا وابنتي سفانة تهزني بقوة. قلت لها: "ماذا تريدين؟" فأجابت: "ديفيد".
سحر ديفيد ابنتي أكثر من الألعاب المختلفة التي تتراقص أمامها. أحبت سفانة الممرض لأنه تحدث معها، وأصغى إليها، وقبل ذلك منحها وقته. أحبته الطفلة لأنه أعطاها ثقة كبيرة في نفسها خلال لحظات. جعلها تؤمن أنها تستطيع أن تتحدث مع كبار ويعيرونها جل انتباههم. هذه الثقة لا تهبها الألعاب، وإنما نحن. لاحظت أن معنويات ابنتي ارتفعت كثيرا بعد اللقاء العابر مع ديفيد. صارت لينة أكثر معي ووالدتها تلك الليلة. تبتسم أكثر وتتذمر أقل. إننا نمنح أطفالنا الألعاب ولا نمنحهم الثقة. الألعاب تصغر عنهم، لكن الثقة تكبر معهم.
تشكلت لدي قناعة راسخة منذ لقائي بالممرض، طيب الذكر، تتمثل في ضرورة أن أمنح طفلي وقتا أكبر واهتماما أكثر. فالبهجة الكبيرة التي أشعلتها دقائق صغيرة ألهمتني وحفزتني. لاحظت بعد التجربة الفرق في معنويات ابنتي ومشاعرها وحتى ثقتها في نفسها. انعكست هذه الساعات التي أنفقتها مصغيا ومتحدثا على علاقتي بها وعلاقتها بمحيطها. ليس الكبار وحدهم يفضلون من يستمع إليهم فحتى الصغار يفعلون. نقلل أحيانا من شأن وعي أطفالنا من حيث لا نحتسب. نعتقد أننا بالألعاب والحلويات نستطيع أن نعوض غيابنا عنهم ونكسبهم، بينما في الحقيقة نخسرهم، فلا شيء يعدل وقتنا معهم، يشعرهم بالطمأنينة والثقة التي لا تتوافر في أعظم لعبة في العالم.
من المحزن أن نشاهد شخصا كريما في الوقت مع أصحابه بخيلا به مع أطفاله. عندما يكبر أبناؤنا سنشعر بفداحة ما ارتكبناه في حقهم وفي حق أنفسنا. سنجدهم قريبين من الغرباء، بعيدين عن الأقرباء. فالغرباء هم وحدهم من أصغوا إليهم، وتحدثوا، وضحكوا معهم. هم الذين أشعروهم بكيانهم ووجودهم. سنندم حينها كثيرا ونعمل ونأمل أن نصوب ما ارتكبناه مبكرا. لكن للأسف سندرك أن الوقت الذي بددناه سابقا لا يرد ولا يستبدل.